الوباء الإلكتروني
غالية خوجة
تتنوع الآلام تبعاً لأي عصر وزمن، وفي زمننا الحالي التقاني أو الافتراضي، ظهرت آلام جديدة، مختلفة عن الآلام المألوفة، اعتاد عليها الإنسان المعاصر، وهي ما أسميها تجاوزاً “الوجع الالكتروني”، فكيف يحدث هذا الوجع؟ وكيف يتحول إلى وباء إلكتروني؟ هل، فقط، من خلال الجلوس (أمام – مع) الأجهزة الالكترونية مما يسبب آلام الظهر والنظر وغيرها من آلام الجلوس ومتابعة الشاشات؟
إضافة لهذه الأوجاع والآلام الفيزيزلوجية والبيولوجية، هناك وباء إلكتروني متعب ومرهق للنفس والذات والروح والعائلة والوطن، فكلٌّ منا يعلم ويدرك كيف تتعب النفس من الأخبار المزيفة، والصادمة، والمنافقة، وعلاقات التواصل الاجتماعي بين أفراد العائلة والجيران والأقارب والمجتمع، مما يسبب حالة من الإرهاق واللاتوازن، ويرتد على المدى البعيد إلى آثار سلبية ومرضية جسدية ونفسية وروحية.
وضمن هذه الآلام، ما يسببه النفاق والخداع والكذب الذي ينتقل من الفضاء الإلكتروني إلى العالم الأرضي الواقعي، فيصيب الإنسان والمجتمع بأمراض انقطاع التواصل والأرحام والأقارب والأصدقاء والجيران، وإلى انقطاع البنية الأخلاقية عن قيمها، وخفوت ضوء الضمائر أو انطفائه، وهذه العلائق المصابة بعدوى الظلمة أشدّ سواداً من نهار بلا كهرباء، وليل بلا أشعة القمر.
أمّا الوباء فيحصد العمر دقيقة إثر دقيقة، فيزيد التباعد الاجتماعي لا المكاني، وهذا أحد الفوارق بين الوباء الإلكتروني والوباء الكوروني، ويزيد التباعد بين الذات وذاتها، مما يساهم في التأسيس لأمراض “بيو تكنولوجية” جديدة وحديثة متناسبة طرداً مع سلبيات هذا العصر التقاني.
أمّا من ناحية خمول الطاقة العقلية والجسدية والذهنية والروحية، فحدّث ولا حرج، لأن الناس تصبح أكثر استهلاكية، وأسرع للانقياد الالكتروني مهما كان هذا المرسِلُ مخطئاً وظالماً وظلامياً، وهنا نكون قد دخلنا في حلقة السببية التسلسلية المتوالية، مما يجعل السبب السابق سبباً آخر لسبب جديد، وجميعها أسباب تساهم في عدم التنمية الاجتماعية والتعليمية والأخلاقية والاقتصادية والتجارية والتنموية والتطويرية في كافة بنيات الحياة.
ألا تذكّرنا هذه الحالة من الوباء الإلكتروني، بذلك المشهد الإنساني في إحدى القصص العالمية التي يكون بطلها الجليد العاصف الذي يجمّد كل شيء حتى الناس والوقت والطبيعة والكائنات؟
التكنولوجيا أشبهَ بذلك الجليد الذي يهبّ على المستهلكين لأعمارهم وعقولهم بأسلوب سلبي، فتتسرب الحياة من بين أصابعهم، وهم يحسبونها ماءً إلاّ أنها تكون كسراب بقيعة.
لماذا لم تعتد الشعوب على الاستفادة من بناء ذاتها بدل تدميرها؟ ولماذا لا تتحدى الخراب بالبناء؟ ولماذا لا تعمل بهيئة فريق واحد ويد واحدة وقلب واحد وروح واحدة؟
ترى، متى نولي أعمارنا منهجية من الإنجاز على الصعيد الفردي والعائلي والمجتمعي وفي كل مكان نتواجد فيه سواء كان البيت أو المدرسة أو الجامعة أو العمل أو الشارع؟ ولماذا لا نعمل بمنهجية إنجازية واحدة هدفها الأوحد الوطن؟
ألا ترون معي أن تفعيل المنهجية التي لا تنتظر المناصب ولا تقف عندها ولا تكون المناصب مبلغ همّها، هي الحل الفاعل والأسرع والدواء الأنسب لأي داء تكنولوجي عضال، وأي داء فسادي وإفسادي عضال؟ كيف؟
كلما وثقنا بأنفسنا وفاعليتنا الإيجابية الابتكارية، نكون جزءاً شمولياً من المنهجية الإنجازية الوطنية الخالصة، فمهما تغيّر شاغل المنصب كشخص، تظل المنهجية الوطنية مستمرة ضمن مسرعاتها الخاصة ومساراتها المدروسة كمنظومة شمولية متكاملة وكأنها مجرة كونية تدور في فضائها المنتظم كما تدور كواكبها في مداراتها المنتظمة، لأن المنهجية الوطنية في كافة المحاور والتفاصيل وتفاصيل التفاصيل، وبمجمل خططها الأساسية والاحتمالية والبديلة سواء كانت لمدة زمنية محددة أو مفتوحة، هي الأهم والأعلى من أيّ كرسي وشخص ومنصب وسلطة إلاّ سلطة الحق والوطن والقيادة المبدعة.