الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نثرات حب

سلوى عباس

هكذا وفي كل مرة يتألق شوقها له فتفتح نافذة القلب المفضية إليه وترسل في سمائه اللازوردية يمامة من عشق وهوى، تحمّلها وجدياتها وأحلامها الندية، تطلقها في جناح من صفاء الروح وسجى اللوعة، تبتعد في فضائه الوسيع، لكن لا يعود منه إلا صدى من تمنّع يؤفل لهائب شوقها، ويذري الكلام على بلاط البرد، فتميل إلى شظاياه تلملمها في جعبة تتسع انكسارات المحبين كلهم، لكنها كما الفراش تعود دائماً لإحراق أجنحتها على وهج مصباح الألم باللقيا يدفعها الحنين إليه أن تكرر حماقاتها، فتطلق لقلبها براريه الملونة بالأحلام فيثب مندفعاً إليه غير آبه بالجبال والبحار وآداب الحديث، يتقافز مسكوناً بروعة الوصول وتألق الصعاب.. غير ملتفت إلى وعورة المسالك واحتدامات الاعتذار.

هذا هو الحب يأسرنا.. يقلب مفاهيمنا رأساً على عقب.. ينير سراديب عمرنا، ويمسح عن أرواحنا ما تراكم من صدأ الزمن وغباره فنرفع مرساتنا باتجاه شاطئه ونعيشه حقيقة مطلقة، دون أن نعلم كم مضى من الوقت ونحن تفتش عنه ونحلم به.. ويكبر هذا الحب ويتملك كياننا حتى يصبح إكسيرنا الذي يغذي روحنا، لكن الخيبة عندما نتوهم أن من نحب يبادلنا مشاعرنا نفسها، ويسعد لكل كلمة نقولها أو نكتبها، ويطالبنا بالمزيد منها، هذه الكلمات التي على ما يبدو ترضي الغرور فقط، وتُنسى بمجرد الانتهاء من قراءتها، فكم هو مؤلم أن يفني شخص ما عمره في بناء شخصيته ثقافياً وفكرياً، ونراه يعيش الحياة بمفاهيمها التقليدية، وحتى الحب الذي تحتاجه روحه يستحضره في أوقات الفراغ – ليؤكد لنفسه ربما- أن من تيمهم بحبه يوماً لازالوا أسرى هذا الحب..؟ّ!

****

كانت تظن فيما مضى أن لا شيء يوقظ فيها قصائدها، لا أحد يعيد لها سهد الليالي الشهي، وأن لذاك الشرود اللذيذ وقتاً قد مضى، ها قد كَبُرت على الاشتياق، وفقدت متعة الانتظار، وحرائقه القدسية.. كانت تظن فعلاً أنها غادرت بعضاً من أجزائها، وأن لتلك الأحاسيس الدافئة لديها عمراً قد انتهى، وأصاب الجفاف روحها في جذورها، كانت تظنه القوس الأخير، غادر قبّته البهية، ثم انطوى إلى الأرض مبعثراً كما روح من زجاج فقدت قدرتها على التحليق، لا أحد يدق باب القلب، لا أحد يضيء حجراته الباردة، لا ليل يأتي ولا نهار.. كل شيء من الرمادي يبدأ، ثم لا ينتهي إلا به.. ما من زرقة ستأتي، ولا اخضرار.

****

يا هذا الذي هو أنت.. هل أعلمك الصباح ما فعل الليل بي.. هل قابلك شوقي على أدراجك وباح.. هل أصابتك عدوايَ بالحنين.. قد لا تدري كيف انهال غيابك الطويل على روحي.. وكيف جففني السهر.. كيف احتدم فيّ طيفك وأشعل شمساً حارقة في انتصاف الظلام.. شمس أبقتني على رصيف النهار.. لقد لونني حبك وانتشر حمى تحت الجلد.. لاشيء يبرئني.. ولا ترياق يعطيني هدأة الياسمين.. ليتك ما علمتني الحب.. ليتك تركتني فراشة تغازل الضوء حتى تموت، ربما ظل على شفاهك ذكري، وربما صليت كثيراً ألا أموت.. لو تدري كم أحتاجك.. كم أحتاج أن تهدئ اضطرام الشوق.. أن تربت على قلبي المتوتر كي يعود إلى صوابه، أحتاج أن تمسح غبار روحي كي تكف عن جنونها واكتئابها، فمنذ زمن لم تحلّق روحي في فضائك.. لم أتوضأ بصوتك.. لم أستضيء بصباحك.. لم أتعمد بياسمينك.. لم أتغلغل في أوردتك.. لم تحتجزني عيناك إذ تكتشفني أختبئ في دمعتيك أكفكها ببنفسج قلبي.. لكن الليل ظل مطبقاً على روحي.. وشمسك لم تشرق عليّ..