ثقافةصحيفة البعث

الشاعر محمد الماغوط… وتجربته الشعرية

من خلال اطلاعي على أعمال الشاعر محمد الماغوط وجدت أن أوزان الشعر العربي ليست محدودة الإيقاع، وأن قصيدة النثر قد سبقت كل الأشكال الجديدة كشعر التفعيلة والنص المفتوح وأن هذه القصيدة ، قد ولدت مع أمين الريحاني وجبران خليل جبران في بدايات القرن العشرين، ففي الموسيقا الشعرية العربية أكثر من ثمانين نوعاً وهنا تكون الاختيارات صعبة لا يرقى إليها إلا شاعر متمرس قادر على تجاوز النمطية والحشو وتحدي سلطان القافية التي شغلت الذهنية العربية لأكثر من أربعة عشر قرناً، وما تزال السجالات قائمة هنا وهناك بين مؤيد للحداثة في الشعر العربي ورافض لهذا الولوج الجديد تحت حجة مفادها أن هذا النسيج الشعري وافد وأن قصيدة النثر كطفل لقيط لا يعرف له نسب.. وما من شك أن هناك علاقة جدلية بين النص الإبداعي وبين منتجه وبمقدار ما ترتقي هذه العلاقة إلى مستوى يوازي حدود الحياة ونتفاعل مع كل تداعيات العلاقة الجديدة بمقدار ما تعكس رؤى فاعلة ومؤثرة في محيطها، ولابد للشاعر الذي اختار العلاقة الجدلية في نصه الشعري من أن يكون قادراً على تفكيك حجارة اللغة ونقلها عبر شيفرته الخاصة لأن النص الذي أبدعه لم يعد ملكاً له بل صار من حق الأجيال أن تقف على دلالته ورموزه من هنا يمكن القول بأن محمد الماغوط شاعر متميز، له نبعته الصافية ونكهته الخاصة ونبرته التي تستعصي على التقليد، فهو يمسك بالأطياف الجارحة ليلقي بها وراء الحدود والمسافات التي تمر على كل البيوت والأمكنة رغم العواصف والرياح العاتية التي تقف في قبضة الأسرار: منذ أن خُلِق البرد .. والأبواب المغلقة.. وأنا أمدّ يدي كا الأعمى… أبحث عن جدار… ولكن ماذا تفعل الغزالة العمياء النبع الجاري؟

إن محمد الماغوط يقدم أحزانه للآخرين على مائدة الفرح ولا يستطيع أحد ممن سبقه أن يتقن فن هذه الجدلية في علاقته مع الناس فهو شاعر يفتش كل الطرق و يغوص في لفظة الحزن الكستنائية ليروي من خلالها قصة الأعتاب التي نسيها الدهر في ثلاجة الآلام.

أيتها العتبة

يا امرأةً متدليةً في الشارع

في الليل

حيث يجري عبيرك الأصم

وتتساقط دموعك الرمادية

وتعتمد قصيدة الماغوط على تكثيف الصورة الشعرية ذات الدلالات الموحية، والإيقاع الداخلي المرتبك هو المظهر الصوتي الساكن قبالتها حيناً والمتفجر غضباً حيناً آخر، في ميدان الفن البلاغي استطاع أن يأتي بلغة جديدة سهلة وبسيطة تضفي على نصوصه المفتوحة رؤية شفافة قادرة على السبق والاكتشاف ليقول:

منذ كانت رائحة الخبز

شهية كالورد

كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين

وأنا أسرح شعري كل صباح

وأرتدي أجمل ثيابي

وأهرع كالعاشق في موعده الأول

لانتظارها

لانتظار الثورة التي يبست

قدماي في انتظارها

مخيلة الماغوط قادرة على ابتكار هذا النوع من المفردات التي تنتظم في سياقها الاستعارات الكثيرة والمداليل القادرة على المحو حيناً والالتصاق باليومي المعاش وتفاصيل الأسئلة.

إن تجربة الماغوط الشعرية تقترب من الأعمال الفلسفية والصوفية المتمردة على الأشياء التي يجيد قراءتها وهو يعتصر أوراقه الصفراء ويقف كالنسر الضاحك على قمة الجبل لقد اعتمد على مشاهد خارقة استولدها من حقول مخيلته الصافية ويكتشف الشاعر أخطار العولمة والإرهاب من منظوره الخاص إذ يخاطب جدّه طالباً إليه أن يحقق له رغبته في الخلاص

آه ..يا جدّي

لقد اشتقت للظلم للإرهاب للتعلق بالأغصان

والشاحنات

للتمسك بأيّ شيء

ولو بقصبان السجون

لقد حاول الماغوط أن يضفي على الشعر جغرافيته الروحية التي تعتمد على الدفقة الشعورية المتماسكة ذات الإيقاع الموسيقي الداخلي وعلى عنصري الدهشة والمفاجأة وكأنه سيمفونية انعقدت حولها حلبات الرقص والغناء وكانت هذه الجملة التي استخدمها الشاعر في نصه المفتوح تمثل خلقاً وإبداعاً يعتمد المحطات الروحية التي لا يستطيع أحد الوصول إليه.

    هويدا محمد مصطفى