الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الماضوية..!

حسن حميد

تُتهم الذهنية العربية بصفات عدة، لعلّ في طالعها (الماضوية)، أي أنها كثيرة الالتفات إلى الماضي إلى حدّ الاستغراق فيه، وهذا ما يؤدي إلى قصور النظر تجاه الراهن ومتطلباته، والمستقبل ومتطلباته أيضاً.

والحق أن هذا التوصيف جليٌّ للناظر في الأبعاد التي ترمي إليها الذهنية العربية، ولكن الممارسة الحقّة تقول شيئاً آخر، وهو أن الذهنية العربية المتهمة بالماضوية مازالت إلى حدِّ هذه الساعة بعيدة عن معرفة الجوهري المضيء في التراث العربي على اختلاف موضوعاته واتجاهاته وما قرّ بين تضاعيف المصنّفات والمدوّنات والكتب التي عمرها أقل من ألفي سنة، وأن كل المعرفة التي كُشف عنها، منذ ألفي سنة وحتى يومنا الراهن، هي معرفة رؤوس أقلام، أو قل هي معرفة عناوين وليست معرفة نصوص وتجارب إلا في استثناءات قليلة نادرة، فالثقافة العربية، وبعد كرّ السنوات الطوال، ما زالت غير قادرة على الإحاطة بعلوم العرب وآدابهم وفنونهم الإحاطة التي تجهر قولاً بأننا عرفنا تراثنا وأحطنا به، أو أننا كنّا أوفياء لتعب الأجداد وما ألّفوه وأبدعوه واشتقوه أيام عصرنا الذهبي. والثقافة العربية ما زالت إلى يومنا هذا بعيدة عن ما يعرف بالتنظيم وما فيه من تسلسل تاريخي، وتحقيب، وتصنيف للعلوم والأعلام وبيان قيمتها.

إن اتهام الذهنية العربية بالماضوية يعني أنها شديدة الإخلاص لتراث الأجداد والثقافة الباهرة التي خلّفوها وراءهم، وأنهم يمعنون النظر في كل علم، وفن، وأدب، ومدوّن حرصوا على توريثه للأجيال القادمة، ولكن هذا الاتهام لا يصمد أمام النقاش، لأن التراث العربي أو قل الثقافة العربية عامةً مازالت تعاني من اختلاط الأصيل مع الدخيل، والحسن مع القبيح، والمطفأ مع البارق، مثلما تعاني من تداخل سير هذه العلوم والفنون الآداب والمدوّنات فيما بينها بسبب كثرة الآراء الدائرة حول القضية الواحدة أو التجربة الواحدة لأيّ علم من أعلام هذا التراث، فلو أخذنا علم الفلسفة وما ربخ فيه من أفكار ونظريات، سنجد تعدديّة هائلة في انتساب فكرة ما أو نظرية ما إلى أعلام كثرة، أحدهم عاش قبل الآخر بمئة سنة، أو أن أحدهم توفي قبل ظهور الفكرة أو النظرية بمئة سنة. وهكذا الأمر في سائر العلوم والآداب والفنون والمدونات تقريباً، وهذا ما يحتاج إلى مراجعات جبارة لا يمكن أن يقوم بها الأفراد إلا ضمن المؤسّسات، والجامعات، ومراكز البحث من أجل وضع خلاصة حقيقية أو كتابة تحقيب رصين وجاد له أسانيده حول ثقافتنا العربية التي عرفت فتوحات علمية وإبداعية بهّارة خلال قرون من عمر البشرية.

معظم الأمم والشعوب فعلت مثل هذا الأمر وانتهت منه، وتفرغت لأمرين أساسيين هما الواقع كي يكون مزدهراً، والمستقبل كي يكون صورة للأحلام العزيزة، ومن دون هذه المراجعات الرصينة، وكتابة الخلاصات الوافية وحفظها، سيظلّ التخبط واضحاً وجلياً كلما تحدثنا عن تراثنا، بل كلما تحدثنا عن علم من أعلام ثقافتنا، وهذا ما يجعل الرؤى شتيتاً، لأن الآراء التي تناولت التراث وتجارب الأعلام هي آراء شتيت لم تخلُ من التحيّز والأنانية والتعاطف المتهافت أو التعصب المغلق.

إن الماضوية تعني معرفة ما ورّثه الأجداد لنا من علوم، وتجارب، وآداب، وفنون، وعادات وتقاليد وأعراف وتصورات.. وعلينا أن نعي ما فيها إن كانت مناسبة  للراهن الذي نعيشه ونبنيه من جهة، ومناسبة من جهة أخرى للمستقبل الذي نحلم به.

Hasanhamid55@yahoo.com