دراساتصحيفة البعث

أمريكا مجرّد قوّة كبيرة

د. معن منيف سليمان

بدأت قوّة الولايات المتحدة الأمريكية في التآكل والتراجع، وفقدت مكانتها كقوّة عظمى، بعد سلسلة من الإخفاقات على جميع الجبهات. فمن حملتها لمكافحة الإرهاب العالمي إلى التورّط في تدخلات خارجية لم تجلب سوى المزيد من الفوضى والدمار والموت. عدا عن تزايد حدّة العداء لأمريكا، ما دفع الخصوم والحلفاء في آن واحد للتفكير بأن العالم يحتاج إلى توازن مع القوة الأمريكية المتغطرسة. أما داخلياً فقد أسهمت أحداث ما بعد الانتخابات الرئاسية في تشويه صورة أمريكا بوصفها دولة ديمقراطية، حيث انقسم الأمريكيون على أنفسهم، وتمّ الاعتداء على الكونغرس، وهو مشهد أدّى إلى تناقص انبهار الشعوب بالنموذج الديمقراطي الأمريكي. كما تعاملت الولايات المتحدة مع جائحة كوفيد 19 أسوأ من أية دولة رئيسية أخرى، ما دفع بعض السياسيين للقول إنها بالتأكيد “ليست قوة عالمية، إنها مجرّد قوّة كبيرة”.

قبل عقدين من الزمن، أطلقت الولايات المتحدة حملتها لمكافحة الإرهاب، مدعية القضاء على الإرهاب العالمي. ومع ذلك، فإن “حربها على الإرهاب” التي تخدم مصالحها الذاتية، قد جلبت المزيد من الفوضى والدمار والموت للعالم على مدار العشرين عاماً الماضية. ومع ذلك، فإن المعايير المزدوجة لواشنطن في الحرب العالمية على الإرهاب لم تلحق الضرر بمصداقية أمريكا كقوة عالمية مسؤولة فحسب، بل أدّت أيضاً إلى تآكل أسس التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب. وعلاوة على ذلك، تستخدم واشنطن مكافحة الإرهاب ذريعة سياسية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى من أجل مصالحها الجيوسياسية وسيطرتها على الصعيد العالمي.

ويرى خبراء أن الولايات المتحدة حقّقت في حربها على الإرهاب بعض النجاح التكتيكي، فقد قتلت بعض القادة واعتقلت بعضهم، لكنها لم تتمكن من القضاء على أي من التنظيمات الإرهابية. فهي لم تحقق نجاحاً استراتيجياً، إذ لا يوجد استدامة، بل ركّزت الإستراتيجية على الجوانب العسكرية والأمنية، وأهملت الأسباب الجذرية للإرهاب. وبناءً على هذا الإخفاق الذريع عدّ وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، أنه لم يعد من الممكن عدّ الولايات المتحدة قوّة عظمى، قائلاً: “القوة العظمى غير المستعدة للالتزام بشيء ما قد لا تكون على الأرجح قوّة عظمى”. وأضاف: “إنها بالتأكيد ليست قوة عالمية، إنها مجرّد قوة كبيرة”.

وعندما ينظر المتابعون إلى سجل واشنطن الحافل على مدى العقدين الماضيين، فإنهم لا يرون قيادة واثقة، وما يرونه بدلاً من ذلك هو سلسلة من الكوارث التي تسبّبت بها واشنطن، فما زالت أمريكا متورّطة في تدخلات عسكرية خارجية في العراق وأفغانستان وليبيا وسورية، وقبلها في الصومال وفيتنام، وانتهجت واشنطن أيضاً سياسة غير متماسكة، وتدخلات إنسانية غير حكيمة، وخسرت بسببها تريليونات الدولار والآلاف من الجنود.

هذه الإخفاقات أدّت إلى تدهور القوة الأمريكية الناعمة، إذ أوضح استطلاع أجراه معهد غالوب أن 30 بالمئة فقط من عينة في 134 دولة يؤيدون السياسات الأمريكية، ولديهم اتجاهات إيجابية نحو أمريكا، وهذا يعني أن نسبة الذين لديهم اتجاهات إيجابية نحو أمريكا تناقصت بنحو 20 بالمئة، على المستوى العالمي، خلال عهد الرئيس السابق ترامب.

كما أوضحت استطلاعات الرأي تزايد العداء لأمريكا خلال السنوات الأخيرة، وارتبط ذلك بتناقص شرعية السياسات الأمريكية وقدرتها على جذب الآخرين بقيمها. وهذا الاتجاه يحمل دلالات أخطر، وهي أن الرأي العام العالمي يتحوّل ضدّ الولايات المتحدة، وأن الفجوة تتسع بينها وبين بقية دول العالم، وذلك بسبب السياسات الأمريكية القائمة على استخدامها لقوتها الصلبة في قهر الشعوب، وأن العداء لأمريكا يتمّ ترجمته إلى أصوات معارضة للسياسات الأمريكية.

وتشير الدراسات إلى خطورة تزايد حدّة العداء لأمريكا في أوروبا، واستخدام المرشحين في أوروبا خطاب العداء لأمريكا في حملاتهم الانتخابية، وخاصة في ألمانيا. وهذا يوضح أن السياسيين في الكثير من الدول يمكن أن يستخدموا العواطف المعادية لأمريكا لزيادة شعبيتهم والوصول إلى الحكم، وبدأ هذا الاتجاه يؤثر على الانتماء لحلف شمال الأطلسي “الناتو”.

وكشف أحدث التقارير البحثية أن صراع القوة ينحصر الآن على الساحة الدولية بين كلّ من الولايات المتحدة والصين، وسط توقعات بأن يصبح التنين الصيني القوة العالمية الأولى في عام 2030. فالصين تمتلك الكثير من المقوّمات التي تمكّنها من زلزلة عرش الولايات المتحدة الذي تتبوأه منذ بدايات القرن العشرين حتى الآن.

إن هذا الإخفاق يشهد على عدم قدرة واشنطن على الحفاظ على نظام عالمي أحادي القطب، فقد عدّت صحيفة “نيويورك تايمز” أن تعاون الدول لمواجهة السيطرة الأمريكية، وبحث هذه الدول عن بديل لسياسات الولايات المتحدة يعني أن نظاماً عالمياً جديداً قد وصل. ولا يتعلّق الأمر بأخطاء رؤساء أمريكيين منفردين، بل بعملية تآكل لا رجعة فيها للسيطرة الأمريكية. والأهم من ذلك، تآكل قدرة الأمريكيين على ممارسة دور المسيطر.