“مكتبة عريف”.. ذاكرة زمن الورّاق الجميل على مدى سبعين عاماً
“البعث الأسبوعية” ــ مروان حويجة
هي إحدى أقدم مكتبات اللاذقية، يقارب عمرها سبعين عاماً ونيّف، تشكل نقطة علّام شهيرة في المدينة وجزءاً من ذاكرتها، لأن تاريخها المكاني يعود إلى تسعة عقود من الزمن قبل أن تتحول إلى مكتبة، في العام ١٩٥٠.. إنها مكتبة “عريف” التي استطاعت أن تحافظ على استمرارها رغم توضعها في الشارع التجاري الرئيسي في مدينة اللاذقية: شارع هنانو الذي تكتظ فيه المحال التجارية المتجددة تباعاً بواجهاتها وديكوراتها مع وجود أبنية قديمة.
في لقاء مع “البعث الأسبوعية”، يقول صاحب “مكتبة عريف”، الورّاق بديع عريف، الأكاديمي المجاز الذي يحمل إجازة في اللغة العربية، وقام بتدريسها عقوداً من الزمن إلى أن تقاعد من العمل التربوي والتعليمي: كانت المكتبة في العام ١٩٣٣ محلّاً لصناعة الطربوش، حيث كان والدي محمد عريف – رحمه الله – يعمل في تلك الحرفة التي كانت رائجة تلك الفترة؛ لكن بعد أن تراجعت واندثرت، ولم تعد مجدية ومطلوبة، حوّل والدي المحل إلى مكتبة.. حينها، في العام ١٩٥٠، لم يكن في اللاذقية سوى ثلاث مكتبات، وقد ورثتُ المكتبة والعمل فيها عن والدي الذي لازمتُه منذ مطلع الستينيات “ولا أزال أعمل فيها حتى اليوم”.
يؤكد عريف أنه لا مجال للمقارنة أبداً بين واقع المكتبة هذه الأيام وما كانت عليه فيما مضى، حيث كانت مقصداً ثقافياً يومياً لأعداد كبيرة من القرّاء والمثقفين والمهتمين الذين كانوا يبكّرون في الصباح للحصول على الصحف والمجلات والكتب، تماماً كالخبز اليومي، وكانت المجلات والصحف والمطبوعات المعلّقة على خيوط النايلون – آنذاك – تغطي واجهة المكتبة بعناوين شاملة لكل مجالات الفكر والسياسة والثقافة والاقتصاد والفن والرياضة والأزياء والطب، وغيرها من عناوين كانت تزيّن العصر الذهبي، وإن لم نبالغ العصر الماسي، للصحافة الورقية بكل أشكالها واختصاصاتها ومجالاتها.
يستحضر “أبومحمد” تلك الصباحات التي انسابت سنوات وعقوداً من الزمن عايشها مع عشاق الكلمة المطبوعة، فكانت اللحظة المنتظرة لوصول الصحف والمجلات، صباح كل يوم، من أجمل اللحظات التي يفتتح بها عشّاق القراءة يومهم، ويضيف: كان إقبال الناس كبيراً على الصحف والمجلات حبّاً بالقراءة وتعلّقاً وشغفاً بها، وتسنّى لي التعرّف على أشخاص كثيرين لم ينقطعوا عن المكتبة لسنوات طويلة.. تجددت وجوه، واستمرت وجوه. وكان هناك قرّاء مواظبون كنت أعرف، بشكل عفوي ومسبق، طلبهم، فلم أكن أسألهم في أغلب الأحيان – بحكم الارتياد اليومي المستمر – ومواظبتهم على اقتناء دوريات ومطبوعات بحدّ عينها.. هناك صداقات تشكّلت وعلاقات توسعت وتبادل أفكار سريعة وكلمات الود والمحبة، وابتسامات وتعابير وجوه مقبلة على القراءة كطقس يومي أساسي وجوهري، وفي ذاكرتي أناس أعلم علم اليقين أنهم كانوا ينفقون كامل راتبهم لشراء الكتب والمجلات والصحف!!
عن حال المكتبة هذه الأيام، يؤكد الأستاذ بديع أنها تغيّرت جذرياً وكليّاً عما مضى، لأن اهتمام الناس تراجع كثيراً بالقراءة الورقية منذ سنوات، وأصبحت الوسائل الإلكترونية هي شغلهم الشاغل واهتمامهم، وتراجع دور المكتبة في ظل التحوّل نحو أجهزة الاتصال والتواصل الحديثة؛ وبالتالي فإن زمن المطبوعات والكلمة المطبوعة ورقياً، بكل أشكال عرضها، قد أخذ طريقه نحو الأفول والتلاشي، وهذه حقيقة وواقع!!
يتابع: المكتبة تعني لي جامعة الحياة، وهذا مفهومي لأهمية المكتبة في حياة الفرد والمجتمع.. لا يمكن أن نستغني عنها، مهما تجددت وتطورت أشكال وأساليب عمل المكتبة، سواء ورقياً أو الكترونياً، فدورها ثقافي معرفي بامتياز، وهي مصدر للمعرفة والثقافة، فالمكتبة هي الجامعة الأولى، ومن بعدها تأتي الدراسات الأكاديمية العلمية.
وعن مستقبل مكتبته يقول المربي وأستاذ اللغة العربية: برغم كل الظروف والمستجدات ستبقى “مكتبة عريف” قائمة بوظيفتها ومهنتها نفسها، كما عرفها الناس ماضياً وحاضراً، ويمكن أن نضيف لها مستقبلاً خدمات الكترونية باتت مطلوبة، وإضافات مرغوبة في مكتبات اليوم، لكنها ستبقى المكتبة التي ترتبط بذاكرة الناس.
ويختم بالقول: أدركتُ طيلة تلك السنوات أن مجتمعنا – ريفاً ومدينةً – مجتمع علم ومعرفة وثقافة، وفيه ثراء معرفي علمي حقيقي لأن من كان يأتي للحصول على الصحيفة والمجلة والكتاب، قاطعاً المسافات البعيدة قبل عقود من الزمن، برغم مشقة التنقّل حينها بين الريف والمدينة، إنما كان توقه كبيراً للاطلاع على المعارف من منابعها، وهذا كان مؤشراً حقيقياً وواقعياً على أن الثقافة هي حاجة أساسية، وأن التوسع بالمدارس والجامعات ومراكز المعرفة جهد نوعي مشهود له بالعرفان في بلدنا الحبيب منذ مطلع السبعينيات ولغاية يومنا الراهن.