التأثـر الأدبي
ناظم مهنا
لم يضع النقد الأدبي القديم نظرية منهجية حول التأثر الأدبي أو الشعري، رغم أن نقاد الشعر والبلاغيين العرب قد لاحظوا ببراعة هذا التشابه بين شاعر وآخر، وكانوا يدرجون ذلك ضمن ما يُعرف بالإغارة أو السرقات الأدبية، أو (الأخذ) فيقولون: «أخذه عن فلان». وفي صيغ ملطفة كانوا يغطون هذا التشابه الذي يبلغ أحياناً حدّ التطابق بما يعرف بالتعارض، أو التضمين، أو الإعارة، ويكفي أن يصرح الشاعر بمعارضته لشاعر آخر حتى تسقط عنه تهمة السرقة أو الإغارة!.
ولعلّ المتنبي من أكثر الشعراء الذين اتهموا بالسرقة والإغارة على أشعار أو صور أو معاني الآخرين، وتوجد روايات وتصنيفات عديدة حول ذلك، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر كتاب: “الإبانة عن سرقات المتنبي لفظاً ومعنى” للعميدي و”المنصف للسارق والمسروق من المتنبي” لابن وكيع. وكان بعض العرب يقول عندما تتشابه المعاني: “المعاني يستدعي بعضها بعضاً”. لكن من المؤكد أن التأثر الأدبي يختلف عن السرقة الأدبية أو الإغارة على أشعار الآخرين، ونلاحظ كثيراً من اللغط حول السرقة الأدبية، ولا نجد عند القدماء من يذكر التأثر الأدبي أو تأثير شاعر على آخر! إلا أن الجرجاني كاد يقارب نظرية التأثر بين شاعر وآخر، يقول: “السرقة في الشعر داء قديم وعيب عتيق، وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر ويستمدّ من قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه..”، ويمكن أن يكون التقليد أو المحاكاة شكلاً من التأثر.
جرير والفرزدق وبشار وأبو تمام والبحتري وأبو نواس وغيرهم، اتهموا بالسرقة! ولعبد الله بن المعتز كتاب “سرقات الشعراء” وللنقاد القدامى آراء متباينة في أنواع السرقات الأدبية، وما يُعدُّ من باب السرقات وما لا يعدّ سرقة. لكن، علاقة التواشج والقرابة بين شاعر وآخر شغلت النقد الحديث، وأن التشابه بين نصين لشاعرين من العصر نفسه أو من عصرين مختلفين، يتعدى مسألة السرقة، إلى ما هو أبعد من ذلك، وعلى هذا تمت صياغة نظرية التأثر في النقد الحديث، وأكبر أعلامها في الغرب اليوم الناقد الشهير هارولد بلوم صاحب نظرية “قلق التأثر” وهي نظرية في الشعر، يرى بلوم أن التأثيرات بين الشعراء الكبار ليست عيباً بل هي من سمات الشعراء الأقوياء! والشعراء الكبار هم الذين يصارعون أسلافهم ليشقوا طريقهم الخاص. وهم بذلك يخلقون أنفسهم ويعيدون خلق أسلافهم. إنها خدمات متبادلة على أرضية الصراع! ماركيز قال مرة: منذ بداياتي أخذت على عاتقي أن أحطم تولستوي. والناقد الكندي الشهير نورثوب فراي صاحب نظرية النقد الأسطوري يرى أن النصوص الأساسية القديمة لا تموت بل تتناسخ في نصوص الشعراء عبر الأجيال حتى العصر الحديث، ونصوص الشعراء الكبار هي رجع وتكرار للأساطير الأولى! لكن الشاعر الأصيل يضيف بعض الانزياحات وعلى الناقد، بحسب فراي، أن يكتشف هذه الانزياحات التي طرأت على النص الأصلي. فقصة الطوفان مثلاً هي (ميثا) أولية، تتكرر بأشكال مختلفة عند الشعراء الرومنتيكيين الانكليز! إذاً، الشعراء الأقوياء يؤثرون ويتأثرون، ولا داعي للخوف من تهمة التأثر، والشاعر الخائف والضعيف هو الذي ينكر تأثره بشعراء سابقين أو مجايلين. ومن الصعب جداً أن يكون ثمة شاعر بلا مرجعيات، حتى بعض الشعر الهذياني، الذي يكتب اليوم عندنا وفي العالم، له مرجعيات وهو نتاج تأثر ربما رديء أو غير موفق، وما يقلقنا هنا أن نبقى متأثرين لا مؤثرين، ونختم كلامنا بمقولة ت. س إليوت الشهيرة والطريفة: “الشاعر الرديء يستعير، أما الشاعر الجيد فيسرق”! على ألا يفهم كلامنا أننا نبرّر السرقة، ونحن نعرض لآراء نقدية حول التأثر الأدبي، فحسب.