ثقافةصحيفة البعث

“ضوء المصباح الوحشي” جديد د. ثائر زين الدين

“ضوء المصباح الوحشي عن الشعر والفن التشكيلي”، بإيحاء جارح من الضوء الذي يسقط على جسد الفتى في لوحة “الإعدام رمياً بالرصاص” التي رسمها فرانشيسكو غويا في أيار عام 1814، وهي من مقتنيات متحف البرادو في مدريد، العنوان الذي استوحاه د. ثائر زين الدين من اللوحة واختاره عنواناً لدراسته الدقيقة التي بلغت أربعمئة وست عشرة صفحة الصادرة حديثاً عن وزارة الثقافة– الهيئة العامة السورية للكتاب– سلسلة آفاق ثقافية- وثق فيها وحلّل واستنبط العلاقات المتداخلة بين الشعر والتشكيل، الموضوع الذي بقي غامضاً مقارنة مع الدراسات التي قدّمت عن العلاقات بين الشعر والموسيقا.

وقد مهّد د. زين الدين للبحث الأساسي للدراسة “القصيدة البصرية” بأبحاث تمهيدية تشير إلى أهمية الأعمال التشكيلية في تغذية خيال الشاعر، بحيث يلجأ لحظة الكتابة إلى ذاكرته البصرية التي اختزنت أعمالاً تشكيلية فيصفها ضمن شعره، أو يذكر أسماء الفنانين، وقد استحضر أمثلة عدة من الشعر العربي والأوروبي، منها قصيدة شارل بودلير بعنوان “كآبة”:

أنا بهو قديم تملؤه الزهور الذابلة/ تسكنه أكداس من الأزياء التي فات زمانها/ وتستنشق فيه عبير حق مفتوح/ رسوم الباستيل الشاكية/ ولوحات بوشيه الشاحبة..

ويستكمل المؤلف بحثه في استلهام الشاعر موضوع الرسم في تفسيره بأن بعض الشعراء عزفوا عن استلهام لوحة معيّنة أو تمثال أو فنان تشكيلي، إلا أنهم استلهموا الرسم ليكون موضوعاً للقصيدة، كما في قصيدة الشاعر السوفييتي بولات أكودجافا “كيف تتعلم الرسم”:

إذا أردت أن تصبح مصوّراً/ فلا تستعجل الرسم/ ويعدد الألوان ليصل إلى اللون الأحمر/ “بعدها خذ اللون الأحمر، كي تبدأ/ الشعلة بالخفقان”..

محبوك الطرفين

ويحلّل المؤلف مفهوم “القصيدة البصرية” التي تعتمد على توظيف حاسة البصر، ليس فقط لقراءة جملها وإنما لمتابعة طرائق تشكلها ونظام توضع مفرداتها وإشغالها لمساحة من الورق، بما يحقّق لها غايات فنية وفكرية محدّدة، متطرقاً إلى مصطلحات عدة، منها المصطلح الذي أطلقه د. بكري شيخ أمين “الشعر الهندسي”، وما وجده من أشكال هندسية كالدائرة والمثلث والمربع والمخمس والمعين، كما أطلق مصطفى صادق الرافعي مصطلح “محبوك الطرفين” مستعيراً هذه التسمية من علم البديع العربي، واصفاً الشكول الهندسية المعتمدة على فكرة المركزية الحروفية، وتوقف عند مصطلح القصيدة التشكيلية الذي طرحه د. محمد نجيب التلاوي، ورأى أن هذا الاصطلاح يستوعب المستويات التشكيلية كلها، لأن التكوين التشكيلي يأتي نتيجة التنظيم الذاتي للشاعر، وينطوي على جوانب تتعلق بالألوان واستخدامها بعناصر العمل وآلية تشكيل تكويناته، وبتآلف التوزيع اللوني والشكلي للعناصر داخل فراغ اللوحة، وما إلى ذلك من تداخل عناصر اللوحة التشكيلية من منظور وظل ونور وخط لتعزف جميعها هارمونية التشكيل الفني.

ويصل د. زين الدين إلى أن القصيدة البصرية انتشرت في الأدبين الأوروبي والأمريكي وظهرت في شعرنا العربي المعاصر، منها محاولات في تغيير جغرافية القصيدة العربية الثابتة بقوة على الشكل التقليدي لعمود الشعر، الذي انطلق من التماثل الثنائي بين الشطرين وإبراز الموسيقا الشعرية بشكل أفضل. ويستحضر البدايات الأولى للقصيدة البصرية في الشعر العربي فيما سُمّي بالشعر المسمّط والموشح والمشجر والشعر الهندسي بأشكاله. وتتألف قصائد الشعر المسمّط والموشح من أدوار، وكل دور يتركب من أربعة شطور، وتتفق شطور كل دور في قافية واحدة ما عدا الشطر الأخير فيستقل بقافية مغايرة، وفي الوقت ذاته يتحدّ مع الشطور الأخيرة في الأدوار المختلفة. وسمّي مسمطاً وهو القلادة وكل دور في المسمّط يجتمع مع الأدوار الأخرى في قافية الشطر الأخير، والمسمطات تأتي مربعة أو مخمّسة، كما يقول أبو نواس:

يا ليلة قضيتها حلوه/ مرتشفاً من ريقها قهوة/ تسكر من قد يبتغي سكره/ ظننتها من طيبها لحظه/ ياليت لا كان لها آخر..

 الموشحة

وينتقل د. زين الدين إلى التأثر بموجات متنوعة من الغناء والموسيقا والجوقات، بفعل عوامل عدة أهمها البيئة الأندلسية والتطورات التي عاشها الشعر العباسي وانتقلت إلى الأندلس بظهور الموشحات التي لم تعتمد على شكل بنائي واحد، إذ اتصفت بتنوع وتعدّد الأشكال الكتابية للنص الشعري تبعاً لموسيقا الموشح نفسه، واشتهرت أشكال عرفتها الموشحة مثل موشحة ابن زهر ومقدمته.

أيها الساقي إليك المشتكى/ قد دعوناك وإن لم تسمع

أما الشعر المشجر فهو ضرب من الشعر يُكتب على هيئة شجرة بحيث يمثل البيت الرئيسي جذع القصيدة، ثم يفرع على كل كلمة منه تتمة له تلتزم القافية والوزن نفسهما من جهتي اليمين واليسار. وأشار المؤلف إلى أنه ظهر في الأدب الفارسي واشتُهر عند الفاطميين، وجاء محمّلاً بأبعاد دلالية دينية تبدأ من نظرة المسلمين إلى الشجرة الطيبة في القرآن الكريم، ومنها المشجرة بعنوان “ذات الدوحة” للإسكندراني وهي مكتوبة في مدح آل البيت ومن أبياتها:

هم دوحة الدين التي تثمر الهدى/ وباليمن والتقوى تظل وتسيق

في حين يأتي الشعر الهندسي بناء على تسمية د. أسامة غانوتي، واقتدى به كثير من الشعراء فبنوا قصائدهم على الأشكال الهندسية مثل القصيدة المثلثة:

دمع عيني سائل في حبّ من/ إن رأته العين لم تخشَ رمد/ دمّر الله أناساً قد طغوا/ وبغوا مالم ينالوا من رشد

الحركات الفنية

وتناول د. زين الدين أيضاً ظهور القصيدة البصرية في الأدب الأوروبي والغربي على العموم، وقد ارتبط بمجموعة من المدارس والحركات الفنية الأدبية وتطور منذ مطلع القرن العشرين، مثل المستقبلية بداية الحرب العالمية الثانية، والأورفية، والحروفية، والدادائية، والسريالية، وكل حركة عبّرت عن روح العصر، مثل القصيدة الحروفية 1915 على يد غوليوم أبو للينير الذي بنى حروفيات على شكل حيوانات كقصيدة الحصان، واشتهرت قصيدته أنها تمطر وتتساقط فيها الكلمات والحروف من الأعلى إلى الأسفل مثل المطر. ثم استحضر محاولات تجديد الشكل الشعري في شعرنا العربي الحديث منذ مطلع القرن العشرين من خلال تجارب خليل مطر وجماعة أبولو وشعراء المهجر بإحياء الشعر المقطعي من تثليث وتربيع وتخميس ومن بنية الموشحات الأندلسية، شارحاً تجربة أدونيس المسكون بفكرة تجديد القصيدة العربية، فيتوقف عند استخدامه ثلاثة مستويات من حجوم أحرف الطباعة صغير ومتوسط وكبير في النص الواحد، ويفتّت الكلمات لغايات دلالية كما في: مرايا للممثل المستور، وهذا هو اسمي، وقبر من أجل نيويورك.. وغيرها.

التراسل

ويقترب المؤلف من مفهوم التراسل بين الفن التشكيلي والشعر حينما يتمكّن الشاعر من توظيف ما يستطيع من تقانات الفن التشكيلي وأدواته وأساليبه في القصيدة، مستحضراً تجارب كثيرين منهم، مظفر النواب التي تحضر فيها مفردات الفن التشكيلي ومصطلحاته، كما يقول:

وابشر أن الأمطار ستأتي/ وستغسل من لوحتنا/ كل وجوه المهزومين

ملده شويكاني