ثقافةصحيفة البعث

“نصف رأس”.. أم نصف رواية وإشكالية النشر؟

تضعنا رواية الكاتب يوسف محمود يوسف الصادرة حديثاً ضمن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، تحت عنوان “نصف رأس”، أمام إشكالية استسهال التعاطي مع هذا الفن الأدبي الأكثر قدرة على إعادة رسم الواقع ومخاطبة وجدان المتلقي، وتبني همومه وتطلعاته، والإفصاح عن المسكوت عنه في علاقته مع ما يُسمّى بـ التابوهات الثلاثة.

الاستسهال هنا يرتكب ليس من قبل الكاتب وحده بل من قبل الهيئة العامة للكتاب التي لم تعد قادرة على إنتاج فن أدبي ينطوي على قيمة جمالية وفكرية تستحق الوقوف عندها في هذا الزمن الضحل بكل مجالاته، فمن يتتبع منشورات الهيئة في السنوات العشر الماضية لابد وأن يتلمس عمق الفجوة بين الكمّ والنوع في منشوراتها التي كانت قديماً مصدر فخر للمؤسسة الثقافية والقارئ العربي منذ مديرية التأليف والترجمة في النصف الثاني من القرن الماضي واستمرت إلى أواخر عام 2010 وما قدمته من مؤلفات قيّمة أغنت المكتبة العربية.

بالعودة إلى رواية “نصف رأس” بصفحاتها الـ 170، نجد أنفسنا أمام يوميات إنسان عادي يروي مايحدث معه ضمن نطاق جغرافي مجهول وضيق وفي زمن آني، بأسلوب سرد تقريري يفتقر إلى اللغة الأدبية والتوالد الدرامي المتتابع، رغم متانة السرد وسلامة اللغة والمعاني، لكنه يفتقد إلى أسلوب السرد الروائي المشبع بالوصف النفسي والفكري والجغرافي الذي يغني المتن الحكائي بالسجالات الفكرية العميقة التي تغوص إلى قاع الواقع، والنفس الإنسانية وتشريح ما يعتمل بها من تناقضات وإشكاليات يمكن الانطلاق منها للوصول إلى مقترحات لحلول منتظرة تساهم في ردم الفجوة بين الواقع الراهن ومراحل التطور البشري، فالراوي هنا شخصية مبهمة الملامح تقود السرد الحكائي وفق اتجاه أحادي المسار، وسطحي الفهم والقراءة، يتناول فيها متفرقات غير مترابطة من هنا وهناك يحاول عنوة تركيبها مع بعضها البعض، فمن يتتبع النسق الروائي سيجد نفسه أمام حبكة مبهمة المعالم والمقولات، أبطالها شخصيات غير مكتملة المعالم تفتقد للمسوغ المنطقي الذي يجمع فيما بينها ضمن نسق حكائي واحد، بمعنى آخر أنها تفتقر للوظيفة الدرامية التي تبرّر وجودها في قلب الحدث، سوى مشيئة الراوي الذي يقودها إلى غير هدى، ويستطيع بسهولة استبدالها بأية شخصية أخرى دون أن يؤثر ذلك على المتن الحكائي وسياقه العام. أو يغيّر من قيمة مايحاول الكاتب طرحه على استحياء من مقولات تمسّ التابوهات الثلاثة، أو المثيولوجيا الاجتماعية السائدة ضمن بيئته، والتي تحسب له جرأة الإشارة إليها.

شذرات روائية ضبابية المعالم تلتقط من الحياة مظاهر باتت ممجوجة إلى حدّ كبير عن الفساد الإداري والرشوة والانتهازية، والمسلمات الاجتماعية والدينية الغيبية، ولاسيما في السنوات الأخيرة، يحاول الكاتب المرور عليها ضمن أحاديث جانبية هامشية وعادية.

سرد يتولى مهمته راوٍ مجهول المعالم والوظيفة والعمر والاسم يتنقل بين مكان وآخر ويسير وفق تسلسل درامي غير متناسق وظيفياً يفقد الأحداث عفويتها وتوالدها وعنصر التشويق فيها، فالتنقل من مكان إلى آخر لا تفرضه المبررات الدرامية وإنما مشيئة الراوي، فهو يبدأ بلقاء مع “شلة” أصدقاء في مقصف الدلبة لاتوافق عمرياً معهم كما يبدو من سياق السرد، أبو محمد رجل ستيني، ويوسف كذلك في حين الراوي شاب غير متزوج، يقول يوسف: “قبل ولادتي بأربع سنوات حلّت النكبة بأرض فلسطين..” ثم يعقبها بجملة أخرى يقول فيها: “أريدك أن تعلم أنني ولدت قبل النكبة، وعندما حلت النكسة بنا كنت قد أصبحت رجلاً..” وهنا لم نعرف هل ولد قبل النكبة أم بعدها.

ثم ينتقل إلى مقام الرجل الصالح دون مسوغ درامي يقنع القارئ بوجود الراوي في هذا المكان سوى رغبة الكاتب بالولوج إلى المسلمات الميثولوجية التي لم ينجح في تشريح وفلسفة تلك المعتقدات من الناحية الاجتماعية والدينية وتقديم موقف موضوعي منها. وينتقل إلى عمارة الملاّك “الإقطاعي” ليمر مروراً خاطفاً على مرحلة الإقطاع والاستغلال. ثم يقصد أحد المدراء بناء على طلب صديقه عبدالله الملقب “بالفواشة” وهو أيضاً يكبره عمراً بسنوات عديدة، وفي طريقه إلى مقر مكتب المدير يمر بالسوق ليصف أحوال الباعة وجشع التجار والأحوال المعيشية، ويستطرد في مشاهدات لا تخدم السرد الحكائي سوى في زيادة عديد الصفحات، كأن يتوقف عند حكاية صاحب المعطف الذي يخفي الجرذان في معطفه، وبعدها يلتقي مع حامد رفيق الدراسة الابتدائية وحليمة زوجة إبراهيم الذي أقعدته حرب لبنان في ١٩٨٢.

ثم يركب ميكروباصاً ليصادف في الطريق ضابط شرطة يشتم الأولاد ضمن زحمة السير، أو ينتقل بشكل فجائي للحديث عن الطلبة السوريين في روسيا وعلاقاتهم النسائية وزيجاتهم من أجنبيات. كلها أحداث مشتتة غير مترابطة أو متناسقة ضمن خط درامي يخدم فكرة واحدة أو حتى أفكارا عدة، وإنما أحداث مجتمعة ضمن سياق واحد لا رابط منطقياً بينها يأتي بنص روائي متماسك ومتكامل بعناصره الحكائية ومقولاته الفكرية، وحتى الخاتمة لم تقدم خلاصة ما منتظرة، أو نتيجة لعصارة كل ما سبق من شذرات قصصية.

مع ذلك لا يمكن تجاهل مقدرة الكاتب على تطويع اللغة وتنويع المفردات التي تشي بمقدرة كبيرة على سبك الجمل وصوغ الحكاية التقريرية القصيرة.

آصف إبراهيم