المحاربون الجدد – في فن الطفولة السورية
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
من أجدى وأنجع حلول النجاح أن تحيط نفسك بالناجحين، وفي مجال الرسم لقصص الأطفال في سورية فإني أُعتبر من المحظوظين لكثرة رفاق الدرب الناجحين، كل لوحة تقع عليها عيني من توقيع أحد الفنانين السوريين – شبابا وصبايا – في مجال تزيين كتب الأطفال تشعرني بالغبطة والحبور، فلي مع معظمهم- إن لم يكن كلهم- شراكة لحظات وجدانية وعملية في هذا الدرب.
الورثة الجدد لهذا الفن الجميل على أهبة الاستعداد، وفي أتم حالات القدرة على خوض غمار التجربة حتى نهايتها لتسطير أسمائهم في التاريخ كفريق عاش على هذه الأرض النبيلة، وساهم في رفع بنيان أهم الحلقات الجليلة في سلسلتها الحضارية، ألا وهي حلقة فن اللوحات الموجهة للأطفال، ونجاحهم في هذا المفصل يعتبر نجاحا للتجربة السورية بشكل عام.
ما ينقص – كما نردد مراراً وتكراراً – هو وجود الحاضنة الجماعية الوطنية لهذه المواهب الفذة والطاقات النبيلة، فهناك من يتوج، وهناك من يصدر له لوحة هنا وكتاب مزين برسومه هناك.. مجرد التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي لا يغني – على أهميته – ولا يجعل هذه المواهب في رضا تام عن تبني خطوات عملية أشد قوة وأكثر فاعلية لتطوير فن اللوحة الطفولية في سورية.
أشعر في هذه الآونة أن المناخ العام للإبداع السوري ينجب في كل يوم من كل بيت أو حارة في جغرافية الوطن فنانا أو فنانة مبدع، ما يشكل جيشاً فنياً سورياً صرفاً من هذه المواهب القادرة – إن تأمّنت لها الأقنية المناسبة – أن تنتج كماً مهولاً من ملحقات ثقافة الطفل – من رسوم للكتب والمجلات – والمعارض وورش العمل – مسلسلات وأفلام الرسوم المتحركة.
وجب التنويه والتذكير بأن تلك الطاقات جلّها يصب مواهبه لدى دور النشر والمجلات والمنابر خارج حدود سورية، مع العلم أنني لم أجرب التواصل مع أحد منهم للعمل في مجلاتنا المحلية إلا وبادر بكل الحب للعمل، وبدون أدنى اعتراض أو تململ من الأجر المالي: الكل يجمع على حب العمل لصالح أطفالنا لأنهم أبناء لنا وأخوة وأولاد جيران بالنهاية، وهذا لسان حالهم لا حالي أنا.
في تجربة تجميع العناصر العاملة لإنتاج مجلة سورية، وإشرافي الفني عليها لعدة سنوات بمختلف المشارب الفنية، تعلمت من رفاقي فناني الأطفال العديد من النقاط التي تزين قاماتهم النبيلة، ومنها – للذكر لا للحصر – أن العمل الإبداعي يعبر عن صاحبه، فيجب أن يكون بأبهى حلة، لا استسهال فيه مهما كانت العقبات والظروف المحيطة به، وهذا ما أرجعني بالذاكرة لسيرة الرعيل الأول المؤسس لمنظومة اللوحة السورية، ومجلة “أسامة” على وجه الخصوص. كنت أجد وأتلمس نوعاً من التحدي على إبراز الأفضل لدى كل الفنانين الأوائل، فكل غلاف يباري الآخر، وكل لوحة لقصة تنافس قرينتها، وجو التنافس والسباق يسود، لينتصر الطفل السوري، وذائقته البصرية، بأعمال ترفع لها القبعة ويتشرف بها التاريخ نفسه.
من تلك النقاط أيضاً كان توريث الحب داخل اللوحة، فالإغراق في فهم النص والغوص في منمنمات الحالة البصرية هاجس كل الفنانين الذين أتعامل معهم، فلم أجد أحداً منهم أبداً يستسهل يوماً نصاً يقع بين يديه؛ بل على العكس، لطالما تم نقاش طويل وجاد حول جدية النصوص المقدمة من عدمها، ومن كون النص جيدا أم مستسهلا وسطحيا؛ وفي كثير من الأحيان تم نقاش كاتب النص لأجل تطوير العمل للأفضل وبرضا الأطراف كلها، وهذه الحالة إن لم تنبع من أمانة الفنان وحرصه على كينونة العمل الجيد، فما منبعها غير ذاك؟!
لوحة المارد الأزرق والبنفسجي في باكورات الأغلفة المقدمة لمجلة “أسامة” ترك الراحل نذير نبعة لنا أثراً إبداعياً خالداً، عنصراً تشويقياً جاذباً، لم أعرف كنهه حتى هذه اللحظات، فعداك عن التشريح الممتاز والتكوين الرائع لعناصر اللوحة – وهذا من بديهيات فنان كبير كـ “نبعة” – هناك سر ما في ذاك الغلاف، أودعه الفنان نذير في العيون لشخصياته، وفي ضربات ريشة التحبير في تمايز وتكامل الألوان ودرجاتها المتفاوتة: خلطة أشبه بعطارة عالية الكعب مزجت أصنافاً متنافرة من السواد للبياض لتعطي هذا الأثر الرفيع لسحر الخلطة.. شيء لا يمكن إدراكه بالتأطير النقدي ولا بفلسفة تحليل اللوحات.
شيء يمكن إدراكه فقط حين تأمل اللوحة، يعطي أثره النفّاذ بين المتلقي وذاك السر النبيل الذي أودعه نذير نبعة لحظة رسم المارد الأزرق.. أثر يشبه أثر التنهيدة الحميمة لروح العاشق وهو يتأمل محبوبه!!