حارس الكنائس في كلام المشهد
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
كيف يقضي الناس أيامهم ويحافظون على أحلامهم بأمان؟ وكيف للوقت أن يستمر بين المشاهد الحياتية متداخلاً بين الذات والآخرين والمكان؟
لعلنا نختزل الإجابة بنبتة صغيرة طالعة من بين حجارة الجدران والشوارع والأرصفة، تهزّ أوراقها وبراعمها، سعيدة بأجنحة العصافير والطيور والقطط التي تسير بجانب المارة، وهم يسيرون داخل أيامهم المتسمة بحيويتها رغماً عن كل الظروف والحصارات، لأن كل إنسان، هنا، يدرك أن من الممكن تجنّب الظروف السيئة رغم صعوبة التجاوز، ويدرك أنه لا مستحيل مع مَن يريد الحقاظ على الحضارات واستكمال صناعة الحضارات.
وأينما اتجهت في حلب، تجد الناس منشغلين في تسيير حياتهم، سواء الواقفين على طوابير الخبز، أو المنتظرين في سياراتهم، أو الذاهبين إلى وظائفهم وأعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم، والجميع واعٍ لهدفه الحياتي الجميل في البقاء في وطن جميل للتشارك في صناعة مستقبل جميل.
ولا يخلو المشهد الحياتي من ميزات محلية تعكس شخصية أهالي حلب من حيث الإصرار على حركة السوق مهما كانت بطيئة، والإصرار على النزهات مهما كانت مقوماتها بسيطة، والإصرار على العلاقات الاجتماعية الواقعية لأن إنساننا يحب الحكي والسرد والتشاور وتبادُل الخبرات والأسئلة والمعرفة في كافة شؤون الحياة.
وضمن هذا المشهد الحلبي المحلي، تسمع قرع أجراس الكنائس تدعو إلى الصلاة، والقداس، كما تسمع صوت آذان الجوامع وهي تدعو إلى الفلاح، فتشعر بطمأنينة وأمان أكثر، وتثق أكثر بأن الله حق وعدالة ويحبنا جميعاً، لذلك.. لا بد أن نحب بعضنا جميعاً من أجل هذا النور الذي لن يتخلّى عنا.
وتزداد ألوان المشهد حين تلتفت إلى شخوص يقومون بواجباتهم متحدّين فصول الإرهاب، فهذا العسكري يسرع بدراجته النارية لإنجاز مهمته، وذاك العجوز يحمل خضاره ويمشي ببطء، وتلك الدورية الشرطية تسير بمحبة، وتلك السيدة تذهب مع ابنتها لتشتري لها الأدوات المدرسية، وهذا الرجل الجالس في غرفته الخشبية يردّ التحية بابتسامة لمن يسلّم عليه من المارة، وكنتُ أحدهم، وكان قد لفتني منذ فترة وقوف هذه الدراجة النارية المزينة بعلمنا السوري الحبيب، وعلم آخر للكنائس، ولباسه الأخضر العاكس لنجمتين خضراوتين وخير لا ينتهي، فسألته عنها ليجيبني: إنها لي، واسمي علاء، وأنا حرس مدخل الكنائس بساحة فرحات، كما أن من مهامي التنظيم والحفاظ على الأمان في هذا المكان بين التلل وساحة فرحات والكنائس.
وللناظر إلى تلك الساحة، والعابر لها، والساكن حواليها، أن يشعر بخصوصية النهار والليل وهما يتبادلان الحضور، ليكتشف الألفة بين أرصفتها البازلتية وحجارتها الحلبية العتيقة، وليكتشف الرقي بين الناس وهم يمضون في مشهدهم الحياتي المصرّ على الاستمرار والأمل والحلم والعمل، فتختلط رائحة المشهد برائحة الخبز والعطور والهموم والأحلام ولون الأشجار المتهيئة لفصل خريفي جميل يوزع غيومه مثل موسيقا غريبة ورائعة بين المشاهد الأرضية وتشكّلات الأبيض واللازوردي في سمائنا العريقة.