مجلة البعث الأسبوعية

خاتمة طريق الحرير الحلبيّ تراث مستقبليّ.. جماليات استراتيجية بإيقاعات حضارية

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

تمر الأزمنة مرور السراب إذا لم يرسخها الفعل الإنساني الحضاري كثقافات لذاكرة الأمكنة تتضمنها أشكال مختلفة للكتاب، تمنحنا قراءات متجددة، تماماً كما تفعل اللحظات الأكثر تأويلاً في نص جمالي مخبوء في أبجدية لونية أو فسيفسائية أو حجرية أو موسيقية أو عمرانية أو لغوية أو علمية أو معرفية.

وهذا ما عكسته جدران الكهوف والرقيمات الطينية وأوراق البُردى، إضافة إلى التراث الإنساني المادي واللا مادي، الشفاهي والمكتوب، وذلك في مختلف أنحاء العالم، ومنها سوريتنا الحبيبة التي ما زالت تمنحنا المزيد من الاكتشاف لكينونتها المركزية على هذه الأرض.

 

قراءة الروح العتيقة

وضمن هذا الأثر الزمكاني، وتراكماته البيانية الأفقية والعمودية، أدرك الإنسان أن فعله في اللحظة الحاضرة يتحول مع مرور الأزمنة إلى تراث محلي وعالمي، ولعله أدرك أنه من الممكن أن يجعل المستقبل تراثاً إنسانياً، أيضاً، فيما لو استشرف كيفية فاعليته الحضارية، واستمرارها في الذاكرة الجمعية الإنسانية.

وبكل يقين، تمتّع الإنسان السوري بهذه الرؤى الحضارية معبّراً عنها بأفعاله وآثاره المادية والمعنوية وبكافة المجالات الإنسانية الراقية أبجديةً وفنوناً وموسيقا علماً ومعرفة، وسورية الوطن الوحيد الذي سيظل قابلاً للاكتشاف لما تفيض به الروح العتيقة بين دمشق وحلب ومختلف المحافظات.

ولأن أي جزء أثري تراثي في هذا الوطن هو مرآة لشمولية المكان وذاكرته وحيويته ضمن علم الحفريات”الأركيولوجيا، فإننا حين نتحدث عن أسواق مدينة حلب القديمة مثل سوق الحرير، نرى أسواق دمشق القديمة مثل سوق الصالحية.

والسؤال: أين تكمن جماليات الأثر وتجولاتها وتحولاتها في سوق الحرير بحلب، كمحطة أخيرة لطريق الحرير القديم الذي يصل الصين بأوروبا من خلال حلب، وذلك منذ اكتشاف صناعة الحرير عام 3000 قبل الميلاد؟

هيبة مدينة حلب القديمة حاضرة مثل طمأنينتها الممسكة بمفاتيح الأبدية، مثبتة للعالم أنها متجذرة هنا مثل كلمة طيبة فرعها في السماء ونورها منتشر في كل مكان من العالم الحالم بزيارتها والتعرف إليها لاكتشاف أسرارها الصامدة والجمالية والخالدة في آنٍ معاً، وهذا ما دفع الصين إلى إطلاق استراتيجية جديدة للتنمية الاقتصادية المعاصرة، أطلقها رئيس الصين شي جين بينغ عام 2013، في إطار عنوان “حزام واحد طريق واحد”، لإعادة إحياء طريق الحرير القديم، تبعاً لمحورين أساسيين أولهما الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، وثانيهما طريق الحرير البحري.

 

حاز جائزة أيكروم الشارقة

وضمن هذه الروح الساحرة، تخطفنا الآثار إلى تأملات ومشاهد وحنين لا يموت معنا حتى وإن متنا، ومنها الأسواق التي ساهمت في ازدهار العالم القديم، وما زالت تساهم في ازدهار العالم المعاصر، والتي بدأت تتألق مع إعادة التأهيل والبناء، ضمن معايير دولية ومنهجية علمية وفنية، يعكسها سوق الحرير الممتد بطول 140 متراً، موزعاً إلى 60 محلاً تجارياً للأنسجة والمكسرات والحلويات والضيافة والصناعات والمنتجات الحلبية المختلفة، إضافة إلى وجود “خان الحرير” كاستراحة للتجار المحليين والقادمين من شتى أصقاع الأرض، العابرين لطريق الحرير العالمي مع بضائعهم المتنوعة، ليعودوا إلى بلادهم مع بضائع مصدرها حلب، وذكريات جميلة عن ساحة الفستق وسوق السقطية، والقلعة وخان الوزير، والتجار “الحلبية” وأهالي حلب الكرام، يحكونها لأهلهم ومجتمعهم بمحبة وفرح ودهشة.

 

معايير أثرية جمالية

وعن تلك اللحظة الافتتاحية، أخبرنا د. نظيم عوض المدير العام للآثار والمتاحف في سورية: تم افتتاح سوق الفستق وخان الحرير وسوق الحرير بحضور د. لبانة مشوح وزيرة الثقافة وشخصيات رسمية، وممثلين عن التراث العالمي، وبالتعاون مع محافظة حلب، ومؤسسة الآغا خان للخدمات الثقافية، والأمانة السورية للتنمية. ولقد تمت إعادة البناء بمعايير فنية وجمالية تناسب الحفاظ على موروثنا التراثي الحضاري، ومنه الأقواس الحجرية الأثرية، والبوابة الحديدية، والجدران، والواجهات، وأبواب المحلات الخشبية وترميم مداخلها بطريقة متناغمة مع الماضي العريق والحاضر المنتصر والمستقبل المتفائل.

 

سوق المجيدية أم الحرير؟

“أحاديث وجع”، بهاتين الكلمتين بدأ د. صخر علبي مدير المتاحف والآثار، رأيه حين قابلته في في الجامع الأموي بحلب، وهو في خضم العمل ومتابعة إعادة التأهيل والبناء، وكم كان متألماً لما حدث لآثارنا وتراثنا المحلي العالمي. وتابع: بطاقات أسماء لا علاقة لها بالواقع أحياناً، لكنها قائمة على تسمية أسواق المدينة من باب أنطاكية إلى سوق الزرب، وأطلق اسم سوق الحرير لأن فيه أحد الخانات وهو خان الحرير، ولا أعرف من أسماهُ، لأن اسمه التاريخي “سوق المجيدية” في أوائل القرن العشرين، وهذا ما عرفته من خلال قراءاتي؛ وفي آخره، كان هناك مخفر المجيدية، لكنه بيع وأصبح محلاً تجارياً.

وتساءل: ترى!! من المسؤول عن تسمية هذه البطاقات للأماكن؟ وعلى أي أساس ومعيارية وتوثيقية تتم تسمية الأسواق بشكل عام في حلب، وخاصة الأسواق التاريخية في مدينة حلب القديمة؟

وأضاف: أسماء الأسواق هي، غالباً، لأسماء عثمانية، ومنها اهتمام بعضهم بزراعة معلم ما، مثل مسجد للتبرك، لكنه يتضمن، أيضاً، هدفاً مادياً بحتاً، ما يرفع أسعار المباني المحيطة، ويؤثر في الحركة الاجتماعية والتجارية والاقتصادية بشكلٍ أو بآخر.

 

تفخر بالخبرات السورية

وتابع د.علبي: هناك أسواق أخرى، منها سوق البهرمية وسوق السقطية، وكان سوق المدينة غير مقبّب أو مغطى، وفيه أقدم الخانات وهو “خان البنادقة”، نسبة لمدينة البندقية الإيطالية؛ وكان للبنادقة ممثليات تجارية في هذا الخان، وأقدمها ممثلية البندقية.

واسترسلَ: حالياً، هذه الأسواق خاضعة لإعادة التأهيل ضمن خطة طموحة، والحكومة السورية تقدم البنى التحتية كاملة، وكل ما يحدث في سوق المجيدية أو خان الحرير نفخر بأنه ينجز بأيادٍ وخبرات ومهارات وعقول سورية.

 

ذكريات بأبعاد ثلاثية

والملفت أن المهندس المعماري نور خوجة، عضو جمعية العاديات، الذي كان رئيس لجنة السلامة العامة للمنطقة السابعة في المدينة القديمة، وكان رئيس نادي شباب العروبة للآداب والفنون بحلب، لم يجبنا عن تساؤلاتنا عن السوق إلاّ بعدما ذهب بزيارة إلى المدينة القديمة متفحصاً ذكريات المكان وذكرياته منذ كان في الثالثة عشرة من عمره، عام 1954، مستعيداً مشاهد من حركة البنية الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، مؤكداً: هي تفاصيل حياتية عشتها ويخلو منها أي كتاب، أستعيدها الآن، وتستعيدها معي ساحة القصابين وسوق السقطية والحجارة القديمة!!

وتابع: لحلب القديمة حوالي 37 سوقاً، وكل سوق يسمى بما يتضمنه من بضائع، مثل سوق الحِبال والعطارين والنحاسين وسوق العرائس وسوق الصابون وسوق الغار وسوق الفستق وغيرها، وحلب اشتهرت بصناعتها النسيجية، ولربما يغيب عن البعض أن حلب، إضافة لموقعها على طريق الحرير العالمية، تنتج أقمشة حريرية من صنعها، ولهذا السبب سمي هذا السوق بسوق الحرير.

ولفتَ متابعاً: مر زمن على السوق كان يطلق عليه سوق المجيدية وفي آخره مخفر، وبعد الترميم استعاد اسمه سوق الحرير، وهو يشكّل جزءاً مهماً من نسيج الأسواق القديمة؛ ولقد أعيد كما كان، لكنني لاحظت أن إضافات أبواب المحلات صممت حديثاً، بحيث تتناسب مع قدم السوق؛ كما أن الساحة أمام خان القصابية “خان أبرك” لم يتم سقفها، رغم أن سقفها كان بشكل قباب، لذلك، أتمنى أن يؤخذ هذا بعين الاعتبار.

وأضاف خوجة: كان هناك أكثر من 300 نول نسيجي يدوي، فلماذا لا نجعل من هذا النول رمزاً لذلك الزمان؟!     مثلاً.. أن نخصص له، ولأدوات هذه الحرفة، مكاناً يكون بمثابة متحف صغير في السوق، فنعيد الحياة لذاك الزمان ورموزه ويومياته كقيمة تأريخية وجمالية وفنية.

ورأى المهندس خوجة أنه لا يكفي أن نرقم الحجر للمحافظة على التراث، بل أن نضيف لوحة مختصرة لغوية وفنية تسرد حياة هذا المكان، إضافة إلى من قام بترميمه من المشرفين والمهندسين والبنّائين، وذلك إلى جانب تخصيص ركن لأدوات التراث المادي.

واختتم خوجة: أتمنى أن أكون قد أديت بعض حق هذه المدينة عليّ، شاكراً جميع من ساهم في إعادة الحياة لهذه الأماكن التراثية من جهات ومسؤولين وفنيين ويد عاملة، لأن الحفاظ على التراث العمراني مهم للحفاظ على تاريخ المدينة للأجيال القادمة.

 

الممر السوري العظيم

وهناك في قلعة حلب الصامدة المنتصرة عبْر الأزمنة، التقيت الباحث أحمد الغريب، مدير قلعة حلب، فأخبرنا عن أهمية خاتمة طريق الحرير، قائلاً: لا شك، تميزت مدينة حلب التجارية عبر التاريخ بموقعها الاستراتيجي المهم كبوابة عبور للحضارات من الشمال ونشاط أهلها وولعهم بالتجارة، فضلاً عن مركزية حلب كقطب رحى لطريق الحرير والممر السوري العظيم، وهذه الخصوصية لحلب أفرزت العديد من الأسواق التي تعود بجذورها التاريخية إلى العهد الهلنستي، فتمددت وتفرعت لتتربع في قلب المدينة القديمة.

وأضاف: من الأسواق المهمة سوق الحرير، أو كما يسميه أهل حلب سوق المجيدية، والذي يعود بتاريخه إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي. ويقع السوق جنوبي الجامع الأموي، وضمن النسيج العمراني التاريخي للأسواق في حلب.

 

هندسة المخيلة الفنية

وتابع الغريب: جرت العادة بأسواق حلب أن يسمى السوق بحسب المنتج، وسوق الحرير اختص ببيع الحرير والأقمشة والمنسوجات. ويتألف السوق من صفين متقابلين من الحوانيت بينهما ممر واسع، وأقبيت سقوف المحلات بشكل مغموس، وتشابهت واجهات المحلات من حيث قناطر مداخلها وطبيعة بنائها. ولقد عاد هذا السوق مجدداً إلى وظيفته الحضارية التي اعتاد عليها أهل حلب، وسيبقى لهذا السوق وقع في الذاكرة لما يتمتع به من جماليات مكانية، ومن أهمية تجارية واجتماعية واستراتيجية وقيم حضارية.

 

المخططات الأثرية تراث أيضاً

وأثناء تجوالي في السوق، لمحت ثلاثة شبان يزورون المكان، فتعرفت إليهم وكانوا طلاباً جامعيين: عبد العزيز فلاحة – طالب هندسة عمارة بجامعة الاتحاد الخاصة، وصديقاه نور كحيل ورياض بستاني من طلاب طب الأسنان، وأكدوا لي بأنهم سعداء لأنهم يرون المدينة تعود إلى ألقها بعد االتدمير الإرهابي، وفي الوقت ذاته، يشعرون بالحزن لما حدث للبشر والحجر، لدرجة أنهم أخبروني أن الحجارة القديمة لها ميزاتها كما الأبواب الخشبية التي كانت هنا، لأن عمر خشبها مئات السنين.

وأضافوا: نأمل من أصحاب المحلات أن تتناسب فنيات وألوان إعادة ترتيبها الداخلي مع إعادة الإعمار التراثية.

ولفتَ الطالب فلاحة إلى أن إعادة إعمار حلب القديمة جميلة، لكننا نتمنى أن توجد مخططاتنا الأثرية لدى الجهات المختصة لكي ندرسها، ونستطيع بناءها كما كانت، لأنها تستحق كل جهد منا نحن الجيل الشاب.. لأنها التاريخ والحضارة.