نصوص الحكمة في الشرق القديم.. الإرث المهمل
عندما نقول “نصوص الحكمة في الشرق القديم”، فهذا يعني أننا سنتحدث عما اكتشف في الشرق من الصين والهند حتى بلاد الشام، لكن عندما نتحدث عن بلاد مابين النهرين أو سورية والعراق فإنه حينها يتوجب علينا أن نبحث عن عنوان آخر أكثر تحديداً وارتباطاً بالنص، هذا الكلام يحيلنا إلى مسألة التسرع أو عدم الدقة في اختيار العناوين المناسبة للنشاطات الثقافية التي يقيمها فرع حمص لاتحاد الكتّاب العرب، ونخصّ هنا المحاضرة التي قدمها د. باسم جبور وحملت عنواناً كبيراً وشاملاً هو “نصوص الحكمة في الشرق القديم” رغم حصر الموضوع بالشرق المتمثل بالمنطقة العربية.
هذا الاستهلال لا يقلّل من أهمية ما قدّمه د. جبور من معلومات مهمة وشائقة بدأها باختراع الكتابة في بلاد سومر عام ٣٢٠٠ ق.م الذي جعل الإنسان الرافدي ينظر إلى التدوين كوسيلة لتلبية حاجاته الاقتصادية، ثم ما لبثت أن تطورت لتطرق أبوابا أخرى سياسية واجتماعية وفكرية ودينية ودنيوية، وانصرف الكتّاب الأولون إلى تدوين التراث الشعبي المتناقل شفهياً، وبدأت المدارس السومرية تأخذ دورها الرائد في ترسيخ الأدب وكتابته، فتعدّدت أساليبها وتطورت مناهجها ما أدى إلى نشوء ما يُسمّى أدب الشرق القديم وتحديداً الأدب الذي كان النواة الأساسية لأدب الشرق القديم عامة الذي وصل فيما بعد إلى مصر وبلاد الإغريق، وبات هذا الأدب سجلاً من المشاعر الروحية والأفكار الفلسفية والقيم الإنسانية التي دونت نظرة الإنسان إلى الآلهة والكون، ومن هنا نشأت نصوص الحكمة، وهي في نتيجتها عصارة تجارب حياتية، وخلاصة بحث دؤوب عن الحقيقة وماهية الوجود، والتساؤلات الكبرى عن علاقة الإنسان بالخالق، وحول الصراعات الثنائية المتضادة التي شكلت مادة فلسفية عميقة كالحياة والموت، والخير والشر، والثواب والعقاب، والخصب والقحط وغيرها من الثنائيات التي كان غايتها نشر العبر، وإسداء المواعظ، التي مازلنا نرددها حتى يومنا هذا.
وعن معنى الحكمة كما يقول الباحث جبور هي: “كل الأعمال التي تضع في أولوياتها أهدافاً أخلاقية تربوية كالأمثال المنطوقة، والقصص الدينية وحكايا الحيوانات والمناظرات، وقد عرف الشرقيون القدامى ولاسيما في بلاد الرافدين إلهاً للحكمة والمياه العذبة وهو “أنك” ويعني سيد الأرض، وقد سمّاه الأشوريون “أيا” أي بيت الماء الذي يقول في وصاياه إلى ملوك الأقاليم: “أكرم أسلافك، أكرم أهلك، دافع عن الضعفاء، وأقم العدل، كن صادقاً مع نفسك، وحارب الشر، وتجنب الإسراف في عيشك..”.
كما شهدت الأمثال الشعبية المتوارثة طريقها إلى التدوين المبكر، فصنّف السومريون مجموعات كثيرة من الأمثال الشائعة، كما أخذ الأكاديون والبابليون قسماً منها، وتابعوا روايتها في ترجماتهم إلى لغاتهم.
ويذكر الدكتور جبور بعض نصوص الحكمة التي كانت تأتي على شكل مناظرات بين الحيوانات، أو النباتات أو الجماد، فتدور بين طرفين يسعى كل منهما إلى إظهار حجته، وتقديم برهانه وبيان فضله وتفوقه والحطّ من قيمة الطرف الآخر وأشهر هذه المناظرات كانت بين الثور والحصان، وبين الثعلب والذئب، والعصفور والسمكة وغيرها.
ومن أقدم النصوص الأخرى أيضاً نص “شروباك ووصاياه لابنه زيوسودرا” المعروفة بنصوص الطوفان السومرية، التي تعود إلى ٢٥٠٠ق.م.
ومن النماذج التي تعدّ من بواكير أدب الحكمة هي قصة “تدلل بل أيميقي” وتعني لأدلل رب العمق، والمقصود به الآلهة مردوخ، وهي تشبه في إطارها العام قصة أيوب في التوراة، ويطلق عليها الدارسون اسم “أيوب البابلي” وتضم ٤٨٠ سطراً في أربعة رقم تعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد وتحكي قصة رجل شريف في قومه تولى وظائف عند الملك وكان له ثروة كبيرة، وكان يحترم الآلهة ويقيم الصلاة ويحسن الناس إلى أن ساءت حالته وأحاط به الشر من كل جانب وابتعد عنه أصحابه وتخلت عنه الآلهة ليبقى وحيداً دون معين..
وثمة نص آخر يتطرق إليه الباحث يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد ويتألف من ٢٧ مقطعاً، وهو حوار بين معذب وصديقه، حيث يتكلم المعذب عن الظلم الناجم عن طبيعة العلاقات الاجتماعية والفوارق الطبقية، ويطرح تساؤلات حول سبب اضطهاد القوي للضعيف وسمو مكانة المجرمين، ويخالفه صديقه الرأي الذي يدافع عن عدالة نظام الكون الإلهي، ويؤكد على حكمة الآلهة العصية على إدراك البشر وفهمهم.
ومن النصوص الحكمية المتأخرة نسبياً، نص حوار بين العبد وسيده مكتوب بالبابلية، ويعود إلى الألف قبل الميلاد، حوارية لا تخلو من سخرية.
والنص الأشهر في أدب الشرق القديم هو نص “احيقار” كاتب الملك الآشوري سنحاريب وحامل أختامه الذي لم ينجب ولداً من صلبه، فتبنى ابن أخته نادان الذي خانه وتآمر عليه فيما بعد ويعود إلى القرن السابع قبل الميلاد واكتشف على ورق بردي من قبل بعثة ألمانية عام ١٩٠٦، ويتألف من ١٣صفحة.
في النهاية وبعد كل هذا العرض الممتع يتوقف جبور عند موضوع المكتشفات التي لم يكن لنا نحن أصحاب الأرض والتاريخ أي فضل أو دور فيها، وحتى الآن الإهمال قائم في مناهج التاريخ وتعلم اللغات القديمة التي تدرس في معظم جامعات العالم إلا جامعاتنا فإنها تدرس على استحياء وندرة.
آصف إبراهيم