مَسْخ الشعر
عبد الكريم النّاعم
جاء صديقي وعلى وجهه علامات من البَرَم، فسألتُه عمّا به لأفتح باباً للحوار، فعسى أن يُشاع شيء من الأنس المُفتقَد، فقال: “أحياناً لا تعرف من أيّ جهة يأتيك المَقت”. قلت: “هذا دليل على إدبار الأيام لا على إقبالها”. قال: “أتسخر منّي”؟! قلت بلهجة المُعتذر: “معاذ الله يا رجل”. قال: “دُعينا مِن قِبل أناس لم نستطع تخجيلهم لحضور أمسية شعريّة، فذهبْنا، وعينك ترى حجم المجزرة، حتى لكأنّك في مسلخ، تُسلخ فيه الكلمات، فشاعر لا يعرف شيئاً عن الوزن/ الإيقاع الشعري يخرج متبختراً كأنّه ابن الرومي أو الشريف الرضي، ويبدأ برفع عقيرته فيما لا صورة شعرية فيه، ولا لمحة فنيّة فيفصح عن عجزه، وشاعرة تزيّنت بقدر استطاعتها حتى لكأنّها ذاهبة إلى معرض ما، تبدأ برفع المجرور، وضمّ المفتوح، وكسْر ما له علاقة بصياغة الجملة الأدبيّة، صحيح أنّني لست شاعراً ولكنني أستطيع تمييز الشعر ممّا ليس شعراً”.
قلت بعد أن أحسست بخروج تنهيدة طويلة خرجت من صدري دون تعمّد: “لقد وضعتَ يدك على جرح ناغر يبدو أنّه عصيّ على العلاج، في هذا الزمن على الأقلّ، كان سابقاً لا يُقبَل صعود شاعر إلى منبر في المواقع الثقافيّة إلاّ إذا كان من المشهود لهم بالشاعريّة، ويكون قد أثبت جدارته الشعريّة، ويُشار إليه بالبنان، فصارت هذه المنابر الآن يصعد إليها حتى مَن ذكرت، وذلك لسبب رئيس وهو أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فالذين يكونون مسؤولين عن هذه المنابر لافي العير ولا في النّفير كما يُقال، ولا علاقة لهم بروح الأدب بعامّة، ووجودهم وجود إداري وظيفي، وليسوا من أهل ما له علاقة بالأدب، وفي هذا استرخاص لقيمة الشعر، بل لقيمة الأدب بعامّة، وساعد على ذلك، في فترة من الفترات سهولة الطباعة، ولم تكن الرّقابة في وزارة الإعلام، أو في اتحاد الكتّاب العرب تنظر إلى السويّة الأدبيّة إذا كان المتقدِّم بالمخطوط سوف يطبعه على حسابه، فزيد الطين بلّة، وحين عزّت الطباعة، كان الفيسبوك قد انتشر هذا الانتشار الواسع، المٌقلق، فذهب كلّ راغب إلى فسحته الزرقاء ينشر فيها ما يريد، وعينك، لو تابعت، فسوف تزداد حسرة وألماً، وثمّة مواقع أعطت لنفسها صفة التقييم والتقويم، فصارت تمنح شهادات تزوّقها، وترسلها لأصحابها، فيظنّون أنّهم قد بلغوا المرتقى الذروة، ولعلّ ممّا ساعد على ذلك هذا التفلّت من أوزان الشعر، والذي كان حتى سبعينات القرن الماضي هويّة في الشعر، فإذا هو مطّرَح عن عجز، بينما يرى من تفلّت منه أنّ الوزن شيء قد تجاوزه الزمن، وربّما ساعد في بعض ذلك أنّ ثمّة ترخّصاً في قبول بعض المجموعات التي تعتمد ما يُسمّى قصيدة النّثر، إنْ في وزارة الثقافة أو في اتحاد الكتّاب العرب، فطغى الموج وطمّ، ولعلّني توقّفت بيني وبين نفسي عند شيء من هذا فرجّحتُ أنّ أزمنة الانكسار يعمّ الانكسار فيها كلّ شيء، ومن جملة ذلك تدنّي سويّة ما يدّعي أنّه “أدب”، ورغم هذا يا صديقي أقول لك مطمئنّاً إنّ في السّاح شعراء حقيقيّين، وهم ليسوا من جيل واحد، بل من أجيال تمتد من الستّينات حتى مطالع القرن الواحد والعشرين، ولم تنقطع هذه السلسلة في بعض المدن، وأضرب مثالاً بذلك بمدينة حمص التي أعرفها جيّداً، ورغم ذلك فإنّ ما ذكرتَه يثير القلق والأسف، ويحتاج إلى خطّة ثقافيّة ورؤية استراتيجية تخطّط للخروج من هذه الزّنقة، ليعود للأدب والثقافة دورهما الريادي، الاستشرافي”.
aaalnaem@gmail.com