مابين تصدع العلاقات أو البقاء في صورة أقزام
محمد نادر العمري
حدثان متعاقبان كانا كفيلان بأن يكشفا طبيعة العلاقة وشكلها ومدى متانتها وسيرورتها مابين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية, هذان الحدثان تمثلا في الإعلان الأمريكي بالانسحاب من أفغانستان بدون أي تنسيق وإخطار للشركاء الأوروبيين مما أدى لحدوث مشهد فوضوي تكرس في عملية الانسحاب والإجلاء, والثاني أزمة الغواصات مع فرنسا والذي بات يهدد اليوم وفق تصريح أكثر من مسؤول سياسي وأمني انعكاسات سترخي ظلالها داخل منظمة حلف الشمال الأطلسي.
ما لبثت الآثار التي خلفتها حالة الانسحاب آحادي الجانب من أفغانستان في دفع الدول الأوروبية للشعور بأن الولايات المتحدة تبحث عن مصالحها فقط دون مراعاة مصالحهم, ودفعهم للتفكير بشأن تشكيل قوات عسكرية مستقلة عبر مرحلتين الأولى المتمثلة بقوة الردع لحماية دول الاتحاد، ومن ثم تشكيل قوات تدخل خارجية تكون موازية أو مساوية نوعاً ما لقوات الأطلسي, ثم جاءت مسألة الاتفاق مع استراليا وبريطانيا ضمن ما عرف باتفاق “أوكوس” لتزيد من حدة الخلافات التي خيمت على العلاقات الأوروبية الأمريكية عموماً، والفرنسية الأمريكية بشكل خاص.
فمن ناحية كشفت أزمة وقف استراليا لعقد الغواصات مع فرنسا بدعم أمريكي عن مجموعة من التحولات الدولية الكبرى التي من المؤكد أنها ستتداعى مباشرة على طبيعة الاصطفافات الحالية والمستقبلية. فهذا الملف يصنف بالخطر لأنه يتجاوز حدود نزاع تجاري بين دولتين، ليعكس نوايا ضمنية نحو تشكيل تحالفات دولية قد تولد وراءها تحالفات جديدة وربما خارج السياق التقليدي والمعتاد، وفي هذه الحالة تكون أوروبا خارج حلبة المساومات.
والدليل على ذلك أن أستراليا تخلت عن “صفقة الغواصات” والمقدرة بقيمة 32 مليار يورو التي أبرمتها عام 2016 مع مجموعة “نافال غروب” الفرنسية لتوريد 12 غواصة تعمل بالكهرباء والديزل، من أجل بناء 8 غواصات فقط بمساعدة الولايات المتحدة وبريطانيا تعمل بالدفع النووي.
النتيجة هناك شاسعة ولكن الهدف والغرض السياسي هو الواضح لذلك، حيث اعتبرت الصفقة الاسترالية الأمريكية هي صفعة موجعة لفرنسا وبدور غير بعيد لبريطانيا التي تبحث عن إثبات أصحية رؤيتها بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ولذلك اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الصفقة والسلوك البريطاني بأنها “طعنة في الظهر”.
وما يؤكد التوجه المستقل السياسي والتحالف وتغير التحالفات واستبدالها من قبل واشنطن يكمن في أن التحالف الثلاثي المفاجئ بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا تم الاتفاق عليه وتدبيره في اجتماعات مغلقة وكتمان شديد – أثناء قمة الدول السبع الأخيرة- وجري الإعلان عنه على نحو مفاجئ ودون استشارة الحلفاء خصوصاً فرنسا بصورة لا تليق بسلوك دول كبرى وعلاقاتها مع حلفائها التقليديين، ولا تليق طبعاً بموقع الزعامة التي تصارع الولايات المتحدة للحفاظ عليها وتكريسها في النظام العالمي.
وهو ما يحمل ثلاث مؤشرات ودلالات بالغة قد تشكل فرصة لأوروبا لاستبدال عقليتها وطبيعة علاقاتها:
أولاً: إن بايدن الذي أدان سلوك سلفه دونالد ترامب في إخلال العلاقة مع حلفاء واشنطن التقليدين, وسعى لوضعها على سكتها السابقة, هو اليوم يفعل أكثر مما فعله ترامب, حيث يريد تكريس “أمريكا أولاً” ولو اضطره ذلك “للدعس” على حلفائه, وبالتالي هذا قد يضع أوروبا بين خيارين, إما أن تنوع علاقاتها وتدخل في علاقات إستراتيجية مع شركاء دوليين مثل روسيا والصين بدلاً من إتباع الحروب الناعمة معهم خدمة للمصالح الأمريكية, أو تبقى أوروبا ذليلة بخضوعها للتبعة الأمريكية وتحافظ على لقبها الذي نالته بجدارة عندما وصفت بالقزم
ثانياً: أوروبا اليوم تواجه عدواً حتى من داخله يتمثل في بريطانيا, التي هدفت من وراء خروجها من الاتحاد الأوروبي لنيل تحررها من قيوده، لكنها في المقابل لم تستطع التحرر من التبعية للولايات المتحدة والتي دفعت لندن لتوجيه صفعة مؤلمة لتكتلها السابق, وهو ما يؤكد بأن هذا الاتحاد الكونفدرالي لم يبنى إلا على المصالح ولن ينهار إلا نتيجة تصادم المصالح.
ثالثاً: ربما تسرع البعض بالقول بأن هذا الخلاف الأوروبي الأمريكي سيؤدي إلى انهيار حلف الأطلسي أو ما يعرف بالناتو, في حين أن التوصيف الأدق, هو أن ما حصل سيزيد من تصدع الناتو لأن الدول الأوروبية مازالت تعتمد على هذا الحلف للحفاظ على أمنها ولن تستطيع التخلي عنه في ظل عدم وجود قوة بديلة, والدليل أن حلف الأطلسي اليوم يعاني من خلافات وصلت لحد الصدام المباشر ولم ينهار كما حصل في المواجهات الفرنسية التركية في المتوسط 2020-2021.
ردود الفعل الفرنسية الغاضبة والتي تحاول واشنطن احتوائها من خلال جهود دبلوماسية تحتوي على محاولات تعويض باريس مادياً عن الأضرار الناجمة لها, هو لن يكون بمثابة رد اعتبار لها وبخاصة لنظامها السياسي الذي يشهد غضب داخلي سابق نتيجة إدارة السياستين الداخلية والخارجية, وفي ذات الوقت خروج فرنسا أو تعليق عضويتها في حلف الشمال الأطلسي لن تكون بمثابة ردة فعل مؤثرة لتعدل واشنطن سياستها, ولعل التوجه الأكثر إيلاماً -إن أرادت باريس الانتقام فعلاً- هو التوجه نحو تعميق العلاقات الإستراتيجية مع الصين وهو ما قد يصيب أمريكا بالجنون.