المسار الإبراهيمي .. هجرة إلى أرض الغربة
د.معن منيف سليمان
أثبتت الدراسات التاريخية إن الجماعات اليهودية ومن يستندون إليهم في حقهم التاريخي المزعوم (العبرانيون، والإسرائيليون) عاشوا جميعاً غرباء ودخلاء في أرض فلسطين، وإن كل ما امتلكوه من مقومات ثقافية: بعض البقايا العمرانية، واللغة مقتبس عن الحضارة العربية القديمة: السومرية، البابلية، الكنعانية. حتى الأسماء الواردة في التوراة سواء كانت أسماء أشخاص أو أسماء أماكن قديمة في فلسطين ما هي إلا أسماء كنعانية وبابلية عربية قديمة، يرجع تاريخها إلى ما قبل ظهور اليهود واليهودية بأكثر من ألفي عام.
ومن يطلع على قصة النبي إبراهيم الخليل في أسفار التوراة يدرك أنه عاش حياة تنقل وارتحال وغربة في أرض كنعان (فلسطين)، ومات ولم يمتلك شبراً واحداً من هذه الأرض. فقد غادر أرضه (في العراق)، “وأخذ معه ساراي امرأته، ولوطاً ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا … وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان.
إذا كان إبراهيم وابنه إسحق وحفيده يعقوب عليهم السلام عاشوا حياة تنقل وارتحال كما جاء في العهد القديم نفسه، إذن، أين دور هؤلاء (وهم الذين يشكلون سنداً تاريخياً للادعاءات الصهيونية) في إقامة أي كيان سياسي وحضاري أو حتى أي أثر عمراني؟. مؤكد أنه لا يوجد. لأنهم ببساطة غرباء وليس لهم عصبية قبلية، ولأنهم بدو لا يملكون شيئاً من العمران، والعصبية والعمران هما أساس قيام المُلك والدولة وسبب نشوء الحضارات.
وفي المرحلة الذهبية عندما بدأ داوود ببناء مقرّه وهمّ ببناء الهيكل استعان بالبنائين الكنعانيين الذين زودوه بالخشب اللازم “وأرسل حيرام ملك صور رسلاً إلى داوود وخشب أرز وبنائين ونجارين ليبنوا له بيتاً” (سفر الأخبار الأول:14)
وحينما شيد سليمان الهيكل الذي بناه على غرار الهيكل عند الكنعانيين، واختار له مكاناً مرتفعاً، على طريقة الكنعانيين أيضاً، فإنه استعان هو الآخر على بنائه بحيرام ملك صور الكنعاني، الذي أمده بكل ما يحتاج لبناء. كان حيرام ملك صور قد ساعف سليمان بخشب أرز وخشب سرو وذهب حسب كل مسرّته” (الملوك الأول:9) وبقي هذا الهيكل قائماً حتى دمره نبوخذ نصر سنة (586ق.م)، ونفى زعماء مملكة يهوذا في القدس وقسماً من سكانها إلى بابل وهو ما عرف في التاريخ القديم باسم “السبي البابلي الثاني”. وأما الأول فكان في سنة (722ق.م) عندما قضى الآشوريون على مملكة إسرائيل في السامرة ونفى قسم من الإسرائيليين (وليس اليهود) إلى العراق.
إذا كان الهيكل بما له من أهمية دينية مساهمة من حيرام ملك صور الكنعاني وقد بناه على غرار البناء الكنعاني في بناء المعابد في ذلك الوقت، وبأيدي عمال وبنائين كنعانيين فأين هو الإنجاز العمراني للإسرائيليين؟. مؤكد أن الإسرائيليين لم يتركوا أي إنجاز عمراني خاص بهم، ولهذا لم تستطع جهود المنقبين جميعها أن تكشف أي أثر غير كنعاني على الإطلاق في فلسطين، ما لا يدع مجالاً للشك أن مملكة إسرائيل هذه لم تكن إلا مجتمعاً كنعانياً.
وحول هذا الموضوع، خرج علماء الآثار الإسرائيليين بنظرية جديدة، تقول إن السبب الرئيس لعدم العثور على مستندات آثارية يهودية في فلسطين يعود إلى أن يهود الأمس قد تبنوا الحضارة الكنعانية القديمة في فلسطين لأن حضارتهم “العبرية” كانت أضعف من أن تنافس الحضارة الكنعانية، وتبنّيهم لهذه الحضارة أدى إلى تطوير الحضارة الكنعانية نفسها حيث نتج عنها حضارة يهودية، ولكن بلباس كنعاني، وهذا افتراض لا يصمد أمام الحقائق التاريخية والآثارية.
وبعد ظهور اليهودية في ظل الحكم الإخميني الفارسي لسورية مابين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، عاش هؤلاء في فلسطين وكانوا أقلية بين السكان الأصليين فعجزوا عن إنشاء دولة لمدة زمنية طويلة تضم فلسطين بكاملها، واستمروا على هذه الحال زمن الحكم اليوناني ثم الروماني للمنطقة إلى أن حدث التشتت اليهودي الكبير سنة (135م) بعد سلسلة من النكبات على يد الرومان، حيث تشتت اليهود في مختلف أنحاء العالم. وكان تشتتهم هذا قد جعل منهم خليطاً عرقياً متنافراً، ففقدوا وحدتهم العنصرية، على الرغم من الطابع التقوقعي والقبلي لديانتهم اليهودية، وأخذوا يتكلمون لغات ولهجات مختلفة هي لغة ولهجة البلد الذي استوطنوه.
وإذا عرجنا إلى اللغة التي تسمى تحريفاً “اللغة العبرية”، فإننا بحاجة لإيضاح ما أثبتته كافة الدراسات والأثريات إنه لا علاقة لليهود بالعبرانيين الآراميين أو الأموريين الذين انحدر منهم إبراهيم الخليل، ذلك أن لفظة “عبري” مشتقة من الكلمة العربية القديمة “عرابة”، أي العربة، وهي في العربية البادية أو باحة العرب، وكذا كلمة “عابار” مشتقة من عابر في العربية التي تعني الأعرابي أو البدوي المتنقل. زد على ذلك أن لفظة “عبر” أو “عبرية” هي من الكلمات العربية في الأصل، وتعني البدو والبداوة، واللفظتان “عبر” و”عرب” هما بالعربية بمعنى واحد، وتشيران إلى حياة البداوة والتنقل وعدم الاستقرار، وتقديم حرف على حرف أمر شائع في اللهجات العربية القديمة، لذلك عندما نعت إبراهيم الخليل بـ “العبراني” إنما أريد به معنى ابن الصحراء أو ابن البادية.
ففي الألف الثاني قبل الميلاد أطلق على طائفة من القبائل العربية في شمالي جزيرة العرب في بادية الشام وعلى غيرهم من الأقوام العربية في المنطقة كلمة “العبرانيين” أو الخبيرو، أو الهبيرو، أو العبيرو. وهم القبائل البدوية العربية، ومنها القبائل الآرامية التي ينتمي إليها إبراهيم الخليل نفسه، ثم أصبحت تطلق على أتباع موسى، بعد ظهوره، كونهم من القبائل الرحل، لأنهم لم يكونوا قد وجدوا بعد، عندما كانت هذه الكلمة تستعمل لتعني البدو الرحل أو المهاجرين أو العابرين.
وهكذا فإن كلمة “عبري” أو “عبراني” تشير إلى نمط حياة اجتماعية قوامها التنقل والارتحال وليس إلى لغة، إذ لا توجد لغة خاصة بالبدوي الذي عاش في الألف الثاني قبل الميلاد إلا اللغة الآرامية القديمة التي كانت دارجة في ذلك الوقت، وهي اللغة التي تكلم بها إبراهيم الخليل وأبناؤه، وهذا الكلام ينسحب على البدوي في أيامنا هذه، فهو يعيش نمط حياة تعتمد على التنقل والترحال، ومع ذلك فهو يتكلم اللغة العربية شأنه في ذلك شأن الحضري الذي يعيش مستقراً في المدن والأرياف.
وبناءً على ذلك يمكن القول إنه لا توجد هناك لغة عبرية خاصة باليهود، وإنما هناك لغة كنعانية – آرامية عربية، استخدم في كتابتها الخط الآرامي القديم، أما محاولة الصهاينة اليوم إحياء الأسماء القديمة في فلسطين المحتلة على أساس أنها أسماء عبرية فهو وهم من أوهامهم المضللة، والثابت أنها أسماء كنعانية عربية الأصل.
وهكذا فإن مقولة “التراث اليهودي” في فلسطين العربية ما هي إلا مستند تاريخي زائف وشرعية تراثية باطلة اخترعها الصهاينة في سياق حمى البحث عن جذور تاريخية وتراثية في المنطقة تعطي الشرعية للكيان الإرهابي الغاصب المسمى زوراً “إسرائيل” في فرض طابعه اليهودي على المدن والأماكن العربية المقدسة بهدف طمس معالمها الإسلامية والمسيحية ثم ضمها إلى قائمة ما يسمى “المواقع التراثية اليهودية”.