مجاراة الروح.. في الأعمال الإبداعية للأطفال
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
كان لي جد يفهمني من لغة الجسد الخاصة بي رغم أنه لم يدرس فرويد أو كيث أوتلي، ولكنه يعرف أن للروح محاولات للتعبير عن دواخلها من خلال تعابير معينة في فيزياء الجسد، كان يقول لي: “كلما شبكت يديك أمامي أعرف أنك مللت الحديث وتعقدت دروب الحكاية بيننا، وكلما رحت تعبث بجبينك فإن مسألة النقلة الأخيرة من لعبة الشطرنج بيننا لم تكن لصالحك أبداً”.. وقلما أخطأت فراسة جدي بي!!
في المسلسل الكرتوني الشهير توم وجيري كان هناك عدة لقطات تفضي إلى العالم الغيبي وعالم الروح والأرواح- سبع أرواح للقطة تتعلق بذيلها – ولوج عالم الأرواح والموتى وطلب العودة لأجل عمل نبيل والحصول على الصفح من الفأرة – عداك عن رمزي الخير والشر على كتفي توم وقت التفكير في القضايا الكبرى.
كان ذلك يبعث في نفوسنا الكثير من الدهشة والمرح، ويفتح ذائقتنا البكر على ألف سؤال وسؤال، وما زال البحث جارياً عن أجوبة مقنعة حتى اللحظة في محاولة لفهم جزئيات النفس، وما يعتمر في دواخلنا.
لماذا يكذب الأطفال؟ ولماذا يخافون من العتمة؟ كيف نعزز بواعث الشجاعة في دواخلهم؟ وكيف نتحكم بغرائزهم لتبقى ضمن الحدود الناظمة لأخلاقياتنا السورية؟ ثم كيف نستطيع، كأدباء وفنانين، ترجمة كل ما هناك من أفكار ومشاعر بطريقة تخلب لب الطفل المتلقي وتجعله يصغي بكل جوارحه لما نقول؟ الأمر ليس بالمستحيل.
كيفية مجاراة المشاعر والأحاسيس وخلجات النفس للأطفال في قصصهم أمر شائك ولكنه شائق، أمر كان مستحيلاً ولكنه بات في السنوات الأخيرة أمراً مغرياً لخوض غمار تجربة الولوج في تفاصيله، وعمل إسقاطات وتوريات تناسب الذائقة البكر البريئة للأطفال، لتمرير فكرة فلسفية هنا، أو قضية نفسية معقدة هناك، والمحاولة الحثيثة لتبسيطها لفهم الطفل بعيداً عن المصطلحات الطبية والنفسية المعقدة التي تمتاز بها دراسات علوم النفس وتحليلات العقل الباطن.
يرى كيث أوتلي – وهو عالم نفس وروائي كندي – أن معاني كلمة “حلم” عند شكسبير مرت بثلاث مراحل، فقد استخدمها في مسرحياته الأولى بمعناها الدالِّ على سلسلة من الأفعال والمشاهد البصرية التي نتخيَّلها في المنام، ثم استخدمها بمعنى أحلام اليقظة. وبعد سنوات أشار بها إلى رؤية بديلة للعالم.
عندما طور يونغ نهجه المميز بشأن دراسة العقل البشري، وفي سنواته الأولى عندما عمل في مستشفى سويسرية مع مرضى مصابين بانفصام في الشخصية، وتوصل إلى أن علم النفس التحليلي هو القانون الاستنباطي لعالم الأحلام والأساطير والمأثورات الشعبية بوصفه الطريق الواعد للفهم والإدراك الأعمق للنفس البشرية، لم يكن يومها يدرك أن نماذج من هذا الفهم المعقد للنفس والروح البشرية والأفكار يمكن أن تتحول إلى أعمال إبداعية، قصص وكتب وأفلام رسوم متحركة، فالغوص في النفس البشرية والأفكار ومحاولة ترجمتها عبارات وصور تحليلية ليس بالأمر الهين، بل كانت لوقت قريب أمر مستحيل وصعب المنال، ولن ننكر المحاولات الجادة التي مرت في أدب وفن الطفل عبر امتداد العالم، ولكن برأيي فإن التجربة الأهم والأقوى والتي تستحق دائماً النظر إليها بجدية واهتمام وتمحيص، هي تجربة الكاتب والمخرج الأميركي بيت دوكتر، فقد استطاع هذا الشاب ومنذ بدايات تعامله مع شركتي بيكسار ووالت ديزني كسر الحدود المألوفة للسائد والولوج إلى عوالم الطفولة النفسية العميقة.
في فيلم “مؤسسة الوحوش” كانت محاولته ربط رعب الصغار من الأماكن المظلمة في غرف نومهم والوحوش التي تتغذى مدنها ببطاريات الطاقة التي تُملأ من صراخ الصغار، محاولة رائدة وذكية لتفسير زاوية مهمة في نفسية الأطفال والعالم الخاص بهم وبلغة سيفهمها الأطفال وبطريقة بصرية رائدة، بين عالمنا وعالم الوحوش والمهرجين المرافقين لهم زاوية معتمة ما، باب خزانة صغير مثلاً يعتبر المدخل المشترك للعالمين.
في المحاولات اللاحقة، كان الفيلم الأعلى كعباً لدى النقاد هو فيلم (قلباً وقالباً) حسب الترجمة العربية لكلمة (Inside Out)؛ وفي هذا الفيلم بالتحديد برزت عبقرية الكاتب الشاب وخياله الخصب وغوصه العميق في فهم علم النفس وتبسيطه بصورة بصرية واعية للأطفال.. الفيلم ببساطة يتحدث عن تجسيد للمشاعر المتصارعة والمتوائمة في عقل طفلة صغيرة تضطر للانتقال للعيش في مدينة جديدة بسبب ظروف عمل والدها، وحين تشاهد الفيلم فإنك ستغرق في تحليلات علم النفس وتجسيداته المتنوعة، فالغضب والاشمئزاز والسعادة والفرح والحزن باتت شخصيات فاعلة ومنفعة يدور من خلالها سيناريو العمل بطريقة فذة ومتقنة، لندخل بعدها في تصوير عالم الأحلام والتخيلات والأماني والآلام. هذا العمل سيظل عملاً فذاً يتصدر النماذج العملية لتطبيقات علم النفس المبسط لحكايات الأطفال.
في آخر أفلامه “روح”، تخطى الكاتب بيت كل الحدود الإبداعية ليخرج لنا بتحفة فنية تتحدث عن الموت بطريقة عالية المستوى من الفهم والبساطة وتلك القدرة على التبسيط لأعقد التعابير النفسية.
في محاولتين جريئتين وخارجتين عن المألوف على سبيل الذكر لا الحصر، فإن العديد من النصوص التي نشرت في مجلاتنا السورية للأطفال كانت تحمل بذوراً فلسفية ونفسية عالية المستوى وتستحق الإشادة، وطبعاً هما على سبيل الذكر لا الحصر: نص “سكورة وملوح” للكاتبة ريم سبيعي، وما فيه من خيال خصب وتفسيرات فلسفية وغوص في فكرة تقبل الآخرن، وكان بنظري نصا ملهما يمكن البناء عليه بشكل قوي لتجارب أعمق وأشمل، ونص “الزائد أخو الناقص” ومحاولات الكاتب مهند صوان الولوج في عمليات الحساب والفهم النفسي للاختلاف من زاوية رياضية حسابية وأدبية، وغيرهما من النصوص المتشعبة والرائدة والمحاولات الجادة في هذا السياق.
هذه المحاولات تؤكد ماهو مؤكد بأن الرحم المعطاء لهذه الأرض ستظل زاخرة بالمبدعين القادرين على التقاط المفردات المتعلقة بأطفالنا وتقديمها لهم بما يتناسب وذائقتهم، كل حين..
(مع رفض الطالبين “الخاطبين”، أو خارج الحدود المعتادة، تبدأ المغامرة، حيث يمكنك دخول مغامرة جديدة، لأنك لا يمكن أن تكون مبدعاً إلا إذا تركت كل القواعد المحدودة والثابتة) جوزيف كامبل.