الرد على الشائعات يكون بتحفيز الاقتصاد وجذب الاستثمارات.. من يستهدف الصناعة السورية.. ولماذا؟
“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود
ليس مستغربا نشر شائعات مدعمة بإحصائيات كاذبة عن هجرة واسعة للصناعيين السوريين إلى الخارج، في الوقت الذي بدأ العالم ينفتح فيه على سورية.
وبما ان الحرب الاقتصادية المعززة بالحصار والعقوبات لم تحقق أي مكاسب سياسية لأعداء سورية حسب توقعاتهم، فقد قرروا ضرب اقتصادها من الداخل فاستنفروا اقلامهم وإعلامهم المأجور لشن حملات التضليل ونشر الشائعات التي تستهدف الصناعة في سورية، والزعم بأن الصناعيين يهجرون وطنهم سورية بسبب الحصار والعقوبات وقلة فرص العمل والاستثمار..!
صحيح إن عددا كبيرا من الصناعيين دمرت منشآتهم جزئيا أوكليا، وصحيح أن الصناعيين يعانون من نقص الطاقة والمستلزمات، ويحتاجون إلى المزيد من قرارات الدعم والتحفيز والتسهيلات، لكن الإحصائيات الصادرة عن اتحاد غرف الصناعة – وليس عن الحكومة فقط – تؤكد تطورا متسارعا لإعادة تأهيل المنشآت المتوقفة عن العمل، وتزايد بالآلاف للمنشآت الصناعية الجديدة في المدن والمناطق الصناعية، ويضاف إلى ذلك مبادرات للصناعيين بتنفيذ مشاريع للطاقات المتجددة تؤمن الكهرباء الدائمة لمعاملهم مع زيادة ساعات التغذية الكهربائية النظامية.
والملفت أن تبدأ الإشاعات التي تستهدف الصناعة السورية مع صدور قانون جديد للاستثمار، ومع قدوم شركات من دول صديقة وحليفة قررت تنفيذ مشاريع صناعية من ضمنها الطاقات البديلة..!
وبما أن جميع الدول التي خرجت من الحروب شهدت نموا اقتصاديا سريعا وكبيرا، وفي كل القطاعات، وبخاصة المتعلق منها بتصنيع مستلزمات إعادة الإعمار، وما يتفرع عنها من خدمات، فهذا يعني أن سورية التي دخلت مرحلة النمو في حقبة ما بعد الحرب ستشهد استقطابا لاستثمارات من الخارج، لا هجرة لرؤوس أموالها وصناعييها إلى الخارج. واستنادا إلى هذه الحقيقة، نسأل: من يستهدف الصناعة السورية وصناعييها مع بدء حقبة النمو الاقتصادي القادمة بسرعة.. ولماذا؟
الرد على التهويل المشبوه!
وكما قلنا مرارا، فإن الصناعة السورية ليست في أحسن أحوالها، كذلك الصناعي يعاني الأمرين لتأمين الإستمرارية في الإقلاع والإنتاج؛ وهذا الواقع كان أساس الحملة المغرضة التي تستهدف الصناعة السورية، وهي حملة اعتمدت برأي رئيس غرفة صناعة حلب، المهندس فارس الشهابي، على أرقام وإحصائيات لاصلة لها بالواقع.
وفي حين يؤكد الشهابي أن “هناك تهويلاً كبيراً في أرقام هجرة الصناعيين واستغلالاً سيئاً ومشبوهاً لما يجري.. وهناك من يستغلها لأسباب مشبوهة لتحريض الشارع الذي يعاني معيشياً وخدمياً”، إلا إنه يحذر أيضا من “أننا أمام مشكلة حقيقية وكارثية قادمة إذا لم نتدارك الأمر بسرعة، فاليوم الصناعي السوري يشعر بالضغط الكبير عليه من عدة عوامل ومسببات متراكمة ومتزامنة، وهو إن فكر بالهجرة، أو بدأ باستكشاف آفاقها، لا يريد أن يغادر البلد التي صمد به كل هذا الوقت”.
وقد سبق وأكدنا منذ سنوات بأن الطريق بين الصناعيين والحكومة غير سالكة، وتحديدا خلال السنوات 2018 – 2020، فلم تترجم الحكومة السابقة آنذاك الوعود التي قطعتها للصناعيين خلال اجتماعها بهم في مدينة حلب!
وبالتالي، بدلا من أن تنشغل الجهات الحكومية المعنية بنفي الإشاعات أو التشكيك بالأرقام المزعومة لعدد الصناعيين الذين هاجروا، فلتبدأ بتذليل الصعاب وإزالة العراقيل، وفي تطبيق مع ما تم إقراره من مقررات وتوصيات في المؤتمر الصناعي الأخير في حلب، عام 2018، فسورية “رغم كل شيء تبقى أفضل مكان للاستثمار الصناعي”..
نعم.. الجهود يجب ان تنصب على إغراء الصناعيين السوريين الذين أقاموا مشاريع في الخارج بالعودة إلى وطنهم، ولا يطالبهم أحد بتصفية مشاريعهم بالمهجر، بل بإقامة مشاريع جديدة لهم في سورية، أو بإعادة تأهيل منشآنهم التي دمرها الإرهاب كليا أوجزئيا!
وبما أن أبرز معوقات الصناعة هي حوامل الطاقة، فمن الضروري أن تنشغل الحكومة بحل هذه المشكلة فلا تنمية صناعية، ولا تشغيل للمعامل على مدار الساعة دون كهرباء ومازوت، وبالتالي يجب حل هذه المشكلة ريثما تدخل مشاريع الطاقة البديلة مرحلة الاستثمار.
إسأل من كان بها خبيرا
نعرف بأن العمل في التجارة والصناعة متداخل في سورية عكس الدول الأخرى، فالكثير من التجار يمارسون العمل الصناعي، وبخاصة في دمشق، وربما كانت حلب الاستثناء الوحيد، فالصناعي هناك لا يتعاطى التجارة إلا إذا تعلق الأمر بتسويق منتجاته. وبالتالي، فإن الخبر اليقين حول صحة الشائعات من عدمها نجده لدى غرف الصناعة والتجارة تحديدا، فماذا يقول من كان بها خبيرا؟
عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، ياسر أكريم، رأى “أن الحديث عن هجرة التجار والصناعيين عبارة عن دعايات قوية، لكن في الوقت نفسه القوانين الاقتصادية تساعد على الهجرة”؛ وبيّن بأن “هناك شائعات خارجية لتهويل هذا الموضوع لأن أعداء سورية بالمرصاد، وهذه الشائعات عبارة عن حرب اقتصادية وفي الوقت نفسه هناك هجرة لأن الوضع صعب حالياً”.
قد تكون الهجرة سهلة للتاجر، فحساباته الدولارية بالأساس مودعة في المصارف الخارجية؛ وبالتالي يمكنه “التجريب” لفترة قد تطول أو تقصر، لكنه سيكتشف سريعا إن التجارة في سورية أسهل وأربح!
أما الصناعي فالأمر مختلف جذريا فمن هاجر في العقد الأخير، وبخاصة من حلب، كان لأسباب قاهرة لأن منشآته تدمرت وأصبح فجأة عاطلا عن العمل، والبعض هاجر إلى دول عربية كمصر والخليج، والبعض الآخر “هاجر” إلى محافظات داخلية كطرطوس واللاذقية، وأنشأ فيها صناعات صغيرة بانتظار العودة إلى حلب.
وفي هذا السياق، نفى عضو مكتب غرفة تجارة دمشق، عماد قباني، نفياً قاطعاً، كل ما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً عن موضوع هجرة التجار والصناعيين إلى مصر، مؤكداً أنه “لم يسمع أن أحداً هاجر خلال الفترة الحالية، وخصوصاً أن هناك اجتماعات تعقد بيني وبين التجار والصناعيين على مدار الأسبوع”.
وكشف أن هجرة الصناعي تعتبر جملة صعبة وليست سهلة، وإغلاق أو نقل مصنع لا يتم بسهولة، واليوم لم نسر في أي شارع، ونجد محلا تجاريا مغلقا.
وأوضح “أن جزءاً من التجار والصناعيين سافروا إلى خارج سورية عام 2013، ونسبتهم لم تتجاوز 13 بالمئة”، و”الذين تضرروا بشكل كبير ودمرت معاملهم هم الذين سافروا حينها، وهؤلاء يتمنون العودة إلى سورية لكن الظروف الحالية صعبة من إعادة الإعمار وغيرها”..
.. ما من منشأة أغلقت أبوابها
كما أن الصناعيين “أخبر” من غيرهم بالإشاعات الكاذبة، فهم أعرف من غيرهم بمن هاجر من زملائهم، ولأنهم كذلك فما من وسيلة إعلامية روجت لإشاعة هجرة الصناعيين السوريين نقلت على لسانهم، أو بالصوت والصورة، صحة الإحصائيات التي رددتها في الآونة الأخيرة!
وهاهو الصناعي عاطف طيفور ينفي ما تم تداوله حول موضوع الهجرة الجماعية للصناعيين والتجار المتداول بشكل لافت للانتباه، وأكد بشكل جازم: “ما هو إلا تهويل بتهويل”.
وبيّن أن هناك من استغل تداول شائعات حاقدة كهذه ضد البلد هدفها النيل من صموده وتعطيل لبعض الأنشطة الإنتاجية، وتحديداً الصناعية والتجارية، وإشاعة الخوف، وعدم دخول استثمارات جديدة، ولإظهار أن مؤسسات الدولة لم تعد قادرة على فعل أي شيء، وهذا ليس صحيحاً بالمطلق.
وأوضح أن الصناعي اليوم عندما يريد أن يهاجر لا يقوم بـ “ضب أغراضه”، بل يحتاج إلى إجراءات لإغلاق معامله وتسريح عماله، وهذا ليس بالأمر السهل، وهو عملية معقدة علماً أنه يمكن أن يكون هناك هجرة لمن ليس لديهم رأسمال ويبحثون عن فرص استثمارية لتطوير أنفسهم ودعم الاقتصاد.
وأكد طيفور أن التصريحات العشوائية الفردية ليس إحصائية رسمية، وإنما السجلات الرسمية، فالمهاجر هو من يقوم بطي ملفه بالمالية، وترقين ملفه بالغرف والسجل، ومن يقيل عماله ويغلق ملفاتهم بالتأمينات الاجتماعية.. إلخ!
المشاريع الجديدة تتزايد
ولا يختلف الموقف الرسمي عما أدلى به التجار والصناعيون، فقد أكد وزير الصناعة، زياد صباغ، إن “ما يتردد من كلام عن موضوع هجرة الصناعيين ما هو إلا مجرد كلام لا أساس له، والصناعة السورية موجودة بمصر منذ زمن بعيد، والصناعي عموماً حتى قبل الحرب لديه منشآت داخل القطر ومنشآت خارج القطر، وهذه ظاهرة طبيعية وحق لكل صناعي في أي بلد، والصناعي السوري موجود في كل مكان، ويجب ألا نستمع إلى هذه الشائعات”. وأوضح صباغ أن “إغلاق المنشآت والهجرة ليسا بالأمر السهل والوثائق التي تردنا إلى وزارة الصناعة تؤكد غير ذلك، وخاصة أن هناك الكثير من الطلبات التي تردنا يوميا للاستثمار وفتح مشاريع جديدة على قانون الاستثمار”.
والحكومة تقدم للصناعي كامل الدعم، وعندما يكون هناك إنتاج لسلعة معينة يتم إيقاف الاستيراد لمصلحة المنتج المحلي، ويتم العمل حالياً على إعداد مرسوم بالتنسيق مع وزارة المالية لإعفاء المواد الأولية الداخلة في الصناعة بشكل عام، وهو الأمر الذي يخفف التكلفة للمنتجات الصناعية. وقال صباغ: حتى تاريخه لا يوجد أي صناعي في سورية أغلق منشأته، والواقع غير صحيح، وما يشاع عبارة عن حالات “تأفف” عامة، ولا أحد راض عما لديه، وموضوع الغلاء والحياة اليومية سببه الأساسي هو الحرب على سورية، حيث انعكست آثارها السلبية على الدولة ووارداتها الاقتصادية.
ليس كل صناعي مغادر.. مهاجر!
ويبدو ان المروجين لهجرة الصناعيين اعتمدوا على فرضيات لا أساس لها على أرض الواقع، فليس كل صناعي أو تاجر مغادر للحدود هو مهاجر، وإلا لكان آلاف السوريين الذين يغادرون بقصد السياحة أو الزيارات العائلية هم أيضا مهاجرون لن يعودوا إلى الوطن!
الصناعي حين يهاجر يقوم – كما أشرنا – بإجراءات علنية، لا سرية، كإغلاق المنشأة، وتسريح العمال وتسوية أوضاعه في التأمينات. وفي هذا السياق، أكد رئيس غرفة تجارة حلب، محمد عامر حموي، أن “الأرقام التي تخص هجرة الفعاليات الاقتصادية، والتي سوقتها مواقع وصفحات مشبوهة ومغرضة، مجرد مبالغات لا منطقية ومزايدات على حساب الوطن والمواطن”.
ونقل حموي عن مصادر موثوقة في سجلات تخص المنافذ البرية والجوية قولها إن الأرقام المروجة لا تصل إلى 10% من الأرقام المتداولة، وأكثر المغادرين للبلاد بغرض السياحة أو الدراسة أو لعائلات مقيمة في الخارج وعائدة من إجازاتها، وأشار إلى أن لكل شخص ظرفه، “فمن اختار السفر سابقاً، سافر إلى مقصده وانتهى الأمر”.
وتساءل: لماذا نصدق الشائعات ونتداولها؟ ألم نتعلم من دروس السنوات العشر، أم نسينا تآمرهم وحقدهم علينا وتكالبهم على مقدرات البلد ونهضته وصموده في وجه غزواتهم؟
كما أكد إياد السباعي، رئيس غرفة تجارة وصناعة حمص، أن “كل ما يشاع عن هجرة التجار والأرقام المتداولة كلام مبالغ فيه.. التجار على رأس عملهم وأملنا بالقادم هو الأفضل وأرقام غرفة تجارة حمص تتحدث عن زيادة في الأسواق المفتتحة، والفعاليات التجارية والصناعية التي عادت إلى عملها، وجميع الصناعيين والتجار على رأس عملهم، وهم موجودون في معاملهم”.
نمو المشاريع الصناعية.. بالأرقام
وبما أن الأرقام تفضح الأكاذيب وتدحض الشائعات، فقد كشفت وزارة الصناعة من خلال إحصائية رقمية، عن نمو ملحوظ في عدد المنشآت الصناعية المنفذة، والمصانع التي دخلت الإنتاج مؤخراً في المدن الصناعية بريف دمشق وحمص وحلب، والتي تجاوزت نسبها الضعف خلال العام الجاري.
ففي المدينة الصناعية بحسياء، وصل عدد المنشآت التي تم تنفيذها خلال العام الجاري إلى 26 منشأة مقارنة بـ 13 في العام الماضي، وهذه المنشآت توزعت بين كيميائية وهندسية وغذائية، إضافة إلى 5 منشآت نسيجية تم تنفيذها في العام الحالي.
وفي محافظة ريف دمشق، عاد الإنتاج بقوة، سواء في مدينة عدرا الصناعية أم تل كردي وفضلون ويبرود والريمة وصحنايا والكسوة وغيرها، وبلغ عدد الرخص الصناعية في المنطقة الصناعية بعدرا حتى نهاية آب الفائت 3757 رخصة، وعدد المقاسم المخصصة 5315، وعدد المنشآت العاملة حتى التاريخ نفسه 1068، بينما بلغت رخص البناء منذ بداية العام 300 رخصة، وعدد المقاسم المرخصة أيضاً 275 رخصة. ومقارنة بالأعوام السابقة، فقد حقق هذا العام أعلى نسبة إنجاز صناعي، وما زال الطلب على تخصيص المقاسم متواصلاً، حيث بلغت نسبة امتلائها في القطاعات الأول والثاني والثالث والرابع والخامس 100 بالمئة.
أمّا في حلب، فقد وصل عدد المنشآت التي أقلعت منذ تحرير المدينة وحتى تاريخه 17945 منشأة، على حين كان عددها خلال الحرب 2500 منشأة.
وحسب التقرير الوارد من مديرية الصناعة في حلب، بلغ عدد المنشآت في التجمعات والمناطق الصناعية 33993 منشأة، منها 11964 منشأة صناعية، و22029 منشأة حرفية، أقلع منها 17229 منشأة، إضافة إلى 183 منشأة يتم تأهيلها حالياً في مناطق الريف الشرقي.
وأشارت مديرية صناعة حلب إلى أن عدد المنشآت التي تم تنفيذها مؤخراً بلغ 251 منشأة صناعية توزعت بين 60 منشأة غذائية و65 هندسية و45 كيميائية و81 نسيجية، إلى جانب تنفيذ 110 حرف صناعية توزعت بين 23 نسيجية و53 غذائية و24 هندسية و10 حرف كيميائية، إضافة إلى 720 منشأة عاملة في المدينة الصناعية في الشيخ نجار.
وسجلت المدينة الصناعية بعدرا هذا العام أعلى نسبة تخصيص للمقاسم الصناعية، وهي تعمل على مدار الساعة، وكل الصناعيين متمسكون بمصانعهم وآلاتهم. وحتى تاريخه تم ترخيص نحو 300 رخصة بناء – وهو رقم يسجل لأول مرة – كما تم تخصيص 275 مقسماً في عام 2021، إضافة إلى وجود 1068 منشأة منتجة موجودة على أرض الواقع، و3800 رخصة بناء.
الخلاصة
واهم جدا من يتوقع انحسار الحرب الإعلامية على سورية، فهذه الحرب التي تعتمد على التحريض ونشر الإشاعات والأكاذيب لن تتوقف، بل ستتصاعد لمنع إعادة الإعمار يأية طرق ممكنة، والرد على هذه الحرب لا يكون بالأقوال وإنما بالأفعال، كمشاركة سورية – بقطاعيها العام والخاص – في المعارض الاقتصادية الخارجية وبزيادة صادراتها، والأهم بتبني آليات فعالة لجذب الاستثمارات العربية والأجنبية وتحفيز من هاجر من الصناعيين السوريين في السنوات الأولى للحرب على العودة إلى وطنهم سورية.