دراساتصحيفة البعث

الصهيونية.. ظاهرة ارتبطت بالاستعمار الغربي

د. معن منيف سليمان

الصهيونية حركة سياسية عنصرية استيطانية توسعية عملت على الربط الوثيق بين فكرة “القومية اليهودية” والدين اليهودي من خلال صياغة أيديولوجية صهيونية عنصرية، استهدفت إيجاد المسوغات التاريخية والقومية والسياسية والدينية لما سمّته “حق اليهود” في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين العربية، ومن هذه المسوغات: “وحدة الشعب اليهودي” الممتدة عبر الزمان والمكان، ومقولة “الشعب المختار” والعلاقة بين “الشعب اليهودي” و”أرض إسرائيل” و”أرض الميعاد” التي تستند حسب ادعاءاتهم إلى الوعد الإلهي المطلق.

واستخدمت الصهيونية كذلك “المقولة اللاسامية” كوسيلة مساعدة أيضاً في تحقيق هذه الأهداف، حيث تنطلق من أن مظاهر التمييز التي واجهها اليهود في أماكن وجودهم، وخاصة في أوروبا، تقوم على أسباب وعوامل عرقية حافظوا عليها عبر رحلة الشتات الطويلة، وليس بسبب عزلتهم وانغلاقهم على هذه المجتمعات.

لقد استهدفت الحركة الصهيونية تحقيق عملية الترابط والتفاعل بين الأيديولوجية العنصرية و”الشعب اليهودي” من أجل ربطه بـ”القومية اليهودية” ودفعه للهجرة إلى فلسطين لإقامة الكيان الصهيوني بحجة وجود “شعب يهودي” يرتكز على مقولات واهية مثل “صوت الدم الخالد” والرباط السري الممتد عبر التاريخ “بين الأسلاف والأحفاد” للتوحد، وتندمج العقيدة اليهودية بالعقيدة الصهيونية في “شعب” يرتكز على وحدة العرق والدين.

إن الصهيونية ظاهرة حديثة ارتبطت بالاستعمار الإمبريالي الأوروبي ارتباطاً وثيقاً، فالمشروع الصهيوني منذ البداية كان مصلحة استعمارية فرنسية وبريطانية ثم أمريكية، وهذه القوى الاستعمارية هي التي عملت على مدى ثلاثة قرون قبل قيام المنظمة الصهيونية العالمية على وضع الخطط والمشاريع لتوطين اليهود في فلسطين، وصاغت وبلورت كلّ المزاعم والأساطير والنظريات والمسوغات التي أصبحت فيما بعد تشكّل الأسس الفكرية للحركة الصهيونية، وأعدّت الكوادر القيادية لهذا المشروع، وأنشأت مختلف أنواع الصناديق والجمعيات لتمويل عمليات الهجرة اليهودية والاستيطان في فلسطين، بهدف إقامة كيان غريب في المنطقة العربية يكون مرتبطاً كلياً بالغرب الاستعماري، ويوظف في خدمة الأهداف الاستعمارية في المنطقة، والقوى الاستعمارية نفسها وخاصة البريطانية هي التي رعت الحركة الصهيونية واصطنعتها لتكون أداة ووكالة لها تتولّى تحت إشراف الأجهزة الاستعمارية المعنية مهمّة الإعداد لتنفيذ المشروع والترويج له في الأوساط اليهودية، ولإضفاء الصفة اليهودية عليه وتمويه حقيقة دوره وأهدافه والقوى الحقيقية التي تقف وراءه.

لقد وجدت الحركة الصهيونية في الإمبريالية وسيلة وأداة لتنفيذ مخططاتها وأهدافها بإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين العربية، وعبر هذه العلاقة النوعية والارتباط الوثيق استطاعت الصهيونية خلال المراحل الماضية نقل ولائها، ومركز عملها ونشاطها، وقاعدة دعمها وتأييدها السياسي العسكري المادي من دولة إمبريالية إلى أخرى، بما ينسجم مع انتقال مركز الثقل الإمبريالي مع اتساع مصالح هذا المركز في الوطن العربي.

ولقد شكل قيام “الكيان الصهيوني” ذروة التحدي الإمبريالي الصهيوني للأمة العربية، وأصبح تأمين وجود “إسرائيل” الحالية وتأمين المرتكزات المادية البشرية العسكرية الجغرافية لتحقيق “إسرائيل التاريخية” في إطار المجال الحيوي الذي يمتد من النيل إلى الفرات هو الهدف النهائي للصهيونية.

واعتمدت الصهيونية في تنفيذ مخططاتها المختلفة على تبيان المنظمات الصهيونية المتشعبة المنتشرة في دول العالم، وخاصة الدول الإمبريالية القوية والفاعلة والمؤثرة في السياسة الدولية، والمتداخلة في الوقت نفسه بشكل دقيق مع القاعدة الاقتصادية والمالية الضخمة ممثلة بالرأسمالية الاحتكارية اليهودية المنتشرة في العالم، ونفوذها وسيطرتها على وسائل الإعلام والثقافة، وبالآلية المتطورة لممارستها وسائل الاحتواء والضغط عبر تشكيل ما أصبح يُعرف بـ”اللوبي الصهيوني” أو “جماعة الضغط” التي تضمّ عادة مجموعة من كبار الشخصيات السياسية والعسكرية الموجودين على رأس السلطتين التشريعية والتنفيذية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية الدولة ذات النفوذ والتأثير الواسع، ومساهمتها من خلال “جماعات الضغط” المختلفة في صياغة ووضع مرتكزات السياسة الخارجية وبالتنسيق والتعاون مع الدوائر اليمينية والقوى والاحتكارات الرأسمالية، بما ينسجم مع أهدافها ويحقق هذه الأهداف أيضاً.

هذا والمؤرّخ العربي وهو يضع نصب عينيه دحض الدعاوى الصهيونية، فإنه يجب أن ينطلق من تحديد مصطلحات العبرانيين، والإسرائيليين، والموسويين، واليهود، ليدلل على أنها ليست أربع تسميات لاسم واحد، بل لكل منها مدلول خاص.

فالعبري أو العبراني، اسم كان يُطلق على البدوي، حوالي الألف الثاني قبل الميلاد، وفيما قبل ذلك على طائفة من القبائل العربية في شمالي جزيرة العرب في بادية الشام، وعلى غيرهم من الأقوام العربية في المنطقة، حتى صارت كلمة “عبري” مرادفة لابن الصحراء أو البادية بوجه عام، وبهذا المعنى وردت كلمة “الإبري”، أو “الهبيري”، أو “الخبيرو”، أو “العبيرو” في المصادر المسمارية والفرعونية، ولم يكن للإسرائيليين والموسويين واليهود أي وجود بعد. لذلك نعت إبراهيم الخليل بـ”العبراني” كما ورد في التوراة إنما أريد به معنى العبريين “العبيرو” وهم القبائل البدوية العربية، ومنها القبائل الآرامية التي ينتمي إليها إبراهيم الخليل نفسه.

ومصطلح عبري أو عبراني لم يرد في القرآن الكريم مطلقاً، وإنما ورد فيه ذكر الإسرائيليين، وقوم موسى، واليهود {الذين هادوا}. أما كلمة عبري للدلالة على اليهود، فقد استعملها الحاخامون بهذا المعنى في وقت متأخر في فلسطين.

أما مصطلح “إسرائيل”، فالمقصود به يعقوب حفيد إبراهيم الخليل وأبناؤه، ودورهم محصور في منطقة حران، حيث كان موطنهم الأصلي الذي ولدوا ونشأوا فيه، أما فلسطين، فهي أرض غربتهم، وقد وجدوا في القرن السابع عشر قبل الميلاد، وهو عصر إبراهيم نفسه، وكانت اللغة في ذلك العصر، لغة واحدة (اللغة الأم) التي كان يتكلم بها أبناء الجزيرة العربية قبل هجرتهم إلى الهلال الخصيب، أي قبل أن تتفرق هذه اللغة إلى اللهجات المختلفة، كالكنعانية والآرامية والعمورية. وهكذا كانت لغة العشائر الآرامية التي كان ينتمي إليها إبراهيم الخليل، هي اللغة نفسها التي كان يتكلم بها الكنعانيون والعموريون في فلسطين، وهي قريبة جداً من اللغة الأم. وحين أطلق الصهاينة اسم “إسرائيل” (ومعناه بالكنعانية: عبد إيل) على كيانهم الإرهابي في فلسطين إنما سرقوا هذا الاسم من الكنعانيين أصحاب الأرض الأصليين لأن “إيل” ببساطة هو إله الكنعانيين.

أما الموسويون “قوم موسى”، واسم موسى مصري بحت، فقد عُرف هذا المصطلح بعد الدور الذي تداولت فيه تسمية “إسرائيل” بزهاء ستمائة عام. والموسويون: هم الجنود الفارّون -على أرجح الاحتمالات- تصحبهم جماعة كبيرة من بقايا الهيكسوس في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهؤلاء كانوا يدينون بدين التوحيد الخالص، وهو غير دين اليهود الذي يدعو إلى عبادة الإله “يهوه” الخاص بهم، بوصفهم الشعب المختار، وقد هرب موسى وأتباعه إلى أرض كنعان هرباً من اضطهاد الوثنيين، ثم أخذ هؤلاء الموسويون بلغة كنعان وثقافتها وتقاليدها، وما اسم صهيون الذي أطلقته الحركة الصهيونية على نفسها إلا اسم كنعاني أطلق على الجبل الشرقي في مدينة القدس.

وأخيراً “اليهود” وهي تسمية اختلف في أصلها العلماء والمؤرّخون، ولكن أكثرهم رجّح أنها تسمية أطلقت على بقايا جماعة يهوذا الذين سباهم نبوخذ نصر في القرن السادس قبل الميلاد.

وهكذا فإن إبراهيم وابنه إسماعيل ينتميان إلى القبائل الآرامية العربية، وهي تعود إلى ما قبل وجود الإسرائيليين والموسويين واليهود بعدّة قرون، فعصر إبراهيم هو عصر عربي قائم بذاته، ليست له صلة بعصر اليهود.

وما يهمنا إبرازه هنا، أن قطعان المستوطنين الصهاينة في فلسطين ليسوا من اليهود “الساميين”، بل من اليهود الخزر، الذين تعود أصولهم إلى روسيا وأوروبا، وإذا ما سلّمنا أن اليهود جميعهم قوم من الأقوام التي سُمّيتْ خطأً “السامية” التي عاشت في فلسطين مدة من الزمن، فمن ذا القادر الآن على التدليل أن اليهودي الروسي أو الألماني أو الفرنسي أو الزنجي أو الحبشي هو استمرار لهؤلاء اليهود الذين كانوا في فلسطين في حقبة الحضور الكنعاني؟.