دولار أم “يوان”؟!.. هذا هو السؤال
البعث الأسبوعية – أحمد حسن
في نهاية ثمانينات القرن الماضي جمع الرئيس المصري حينها، “حسني مبارك”، بعض أساتذة الجامعات والمفكرين، للتداول في وجهة سير سفينة العالم في تلك المرحلة الحافلة بالتقلبات والأمواج السياسية والأيديولوجية، وبعد أن أدلى كلّ بدلوه وقف أستاذ أكاديمي وبدأ يشرح للرئيس، والحضور، رؤيته للصين ومستقبلها –وكانت حينها دولة على الهامش- باعتباره مستقبل العالم في المرحلة القادمة مطالباً بتوثيق علاقات بلاده بها، وقبل أن يكمل كلامه كان واضحاً أن صبر مبارك قد نفد فأشار له بيده صارخاً: “صين إيه يابو صين أنت”، وتعالت الضحكات والابتسامات من “المفكرين” والأساتذة “الباحثين” فيما جلس الرجل خجلاً من علمه في حضرة الجهال.
وبعد أقل من عشر سنوات على الحادثة كانت الصين تتقدم بخطى واثقة نحو الأمام وبعد عقد آخر من الزمن كانت قد أصبحت المشكلة الأهم والتهديد الأخطر الذي يواجه المركز الأمريكي في قمة العالم حتى إنها جعلت رجلاً مثل سفير الولايات المتحدة السابق في الهند “روبرت بلاكويل” يقول إن الصين جعلت التفوّق الأميركي في المنطقة “وهمياً”، فالمنافسة التي تطرحها الصين ليست اقتصادية فقط فهي تتجاوز ذلك نحو تقديم نموذج آخر لتقدم البشرية لا يسير بالضرورة على خطا النسق الليبرالي الغربي بل بالتضاد معه تقريباً.
نظرة إلى الماضي
أوائل السبعينيات ومدفوعاً بمتطلبات السياسة الأميركية الواقعية للحرب الباردة “فتح”، “هنري كيسنجر” ثعلب السياسة الأمريكية، الصين، وأدخلها كلاعب، ولو ثانوي، في السياسة العالمية، فالرجل كان يريد من الشيوعي الصيني التحالف مع الرأسمالي الأمريكي ضد الشيوعي السوفياتي!! وقد حقق نجاحاً لافتاً في مسعاه، لكنه، وتلك مفارقة السياسة، كان يصنع “فرانكشتاينـه” الخاص، الذي سيبدو الخطر السوفياتي بالمقارنة معه نزهة بحرية، ليس في اختلاف موازين القوى ونوعيتها فقط، بل في امتداد أزرع التنين الصيني داخل أروقة المعسكر الغربي ذاته .. بل داخل أمريكا ذاتها!!.
اليوم: بين صقور واشنطن و”حكيم العالم الغربي”
لا سؤال يتردد اليوم على ألسنة النخبة السياسية والفكرية في واشنطن أكثر من سؤال: هل الصين تشكل تهديداً متزايداً تجب مواجهته بجرأة، أم مشكلة يمكن التعامل معها بصبر؟. “كيسنجر” ذاته والذي أصبح يدعى بـ”حكيم العالم الغربي”، يقول إن هدف “الإمبراطورية” اليوم الموازنة مع بكين وليس السيطرة فتلك حالة تجاوزتها الوقائع -هو يشير هنا إلى أهمية تحييد موسكو، وهذا ما يذكر بسياسته في السبعينيات، ولكن معكوسة، مع البلدين ذاتهما – لكن الفاعلين في واشنطن، ومنهم إدارة “بايدن” يرون أن وقت الموازنة قد فات، والوقت الآن هو لإحاطة الصين بكافة أنواع وألوان الخيوط، الفولاذية منها تحديداً، لأنها، كما يقول بايدن، الدولة التي “تستثمر أكثر منا بمسافة بعيدة”، و”خطتها هي السيطرة على المستقبل”.
الصراع معها يجمع ما بين الجيوسياسي والأيديولوجي والتكنولوجي، وهو القاسم المشترك الوحيد تقريباً بين الجمهوريين والديمقراطيين، فذلك كان هدف إدارة “أوباما” ثم إدارة “ترامب” والآن “بايدن” وإدارته وإن تغيرت طبيعة وشدة المقاربة.
أوراق واشنطن
“بايدن” الذي يطمح لصورة “مخلص الغرب” سارع ومنذ اليوم الأول له في البيت الأبيض إلى محاولة تجاوز “حقبة ترامب” وانعكاساتها، فقام بإعادة “شدّ وربط” للحلفاء، عسكريّة لـ” الناتو”، واقتصادية سياسية لـ”كتيبة السبع” التي وللمرّة الأولى ذكرت الصين في بيانها الختامي مشدّدة “على ضرورة اعتماد سياسة مشتركة حيال توجّهاتها الاقتصادية والتجارية، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان”، والأهم، الإعلان عن مشروع مضادّ لـ”الحزام والطريق”، وهو مشروع “إعادة بناء عالم أفضل”، مع ذات الدول، تقريباً، التي يستهدفها المشروع الصيني.
بعد ذلك جاء تحالف “أوكوس” ولو على حساب حليف أوروبي كبير هو فرنسا، ثم إحياء تحالف “كواد”، وبالطبع هناك أوراق أمريكية أخرى، بعضها “أحصنة طروادة أمريكية” ومنها “تايوان” الخاصرة الصينية الضعيفة، ومنها “الأيغور”، ومنها قصة الحريات، ومعها الديمقراطية و”النموذج الغربي”، و..”الدولار” باعتباره عملة التبادل العالمي الذي لم تستطع حتى الصين استبداله حتى الآن.
أوراق بكين
بعيداً عن قصة مبادرة “الحزام والطريق”، الذي وصفه بعض المحلّلين باعتباره “حصان طروادة في قلب مناطق نفوذ أميركي حصري تقليدياً”، وبعيداً عن تحالفات بكين مع دول مثل روسيا وايران وغيرهما، وعلى الأهمية الفائقة لكل ذلك، فإن الخطير في الأمر هو التشبيك الاقتصادي الصيني مع الغرب، أوروبا مثالاً، وحتى داخل الولايات المتحدة ذاتها مع آلاف الشركات الأمريكية التي أصبحت الصين مصنعها المنخفض الكلفة وسوق استهلاكها الواسع في الآن ذاته، وهناك ما هو أخطر ويتمثل بسعي “بكين” إلى إنشاء “بنية مالية بديلة تشكّل تهديداً رئيساً طويل المدى لقيادة الولايات المتحدة” بحسب نخبة واشنطن، التي تضيف إن الصين “أوجدت ترتيبات مالية منافسة مصمّمة لتقليل أهمية الدولار كعملة احتياطية في العالم، بما في ذلك تدويل الرنمينبي (الاسم الشعبي لـ”اليوان”)، تطوير بدائل SWIFT للمعاملات المالية الدولية، خلق وكالات تصنيف ائتماني بديلة”، وتلك خطوات حرب كاملة الأوصاف كما يقولون.
خلاصة القول
بغض النظر عن التطورات اليومية للصراع الصيني الأمريكي فإن بكين ستبقى التحدّي الأبرز لواشنطن على مدى العقد المقبل، وحتى لو حدثت بعض التفاهمات بينهما على أمور محددة، فستبقيان في مواجهة مفتوحة من العداء والصراع.
بهذا المعنى علينا أن ننتظر يومياً سماع “صفير” الأسلحة الأمريكية المعتادة: الاتهام بدعم الإرهاب، العقوبات، تفجير الأوضاع في محيط الصين الجيوسياسي، فالرغبة الأميركية باستمرار سيطرتها القطبية الأحاديّة لا يمكن تحقيقها بغير السيطرة الكاملة على السوق دون أي منافس آخر، وذلك أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالأسلوب الذي اختصره “توماس فريدمان” بالقول: “إن اليد الخفية للسوق لا تعمل من دون القبضة الخفية للبنتاغون. ماك دونالدز يزدهر أكثر مع ماك دونال دوغلاس مخترع مقاتلة أف 16”.. والصراع مستمر.