مجلة البعث الأسبوعية

اختفاء مفاجئ لقصة التجسس على تكنولوجيا الغواصات النووية الأمريكية

البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة

يمثل صمت الإدارة الأمريكية عن قيام  جوناثان توبي – المهندس النووي في البحرية الأمريكية- بسرقة المعلومات السرية جداً المؤشر الأقوى على أن  الكيان الإسرائيلي هو المستفيد الوحيد.

وعلى الرغم من تصدر الخبر وسائل الإعلام العالمية قبل أيام، إلاّ أن الاختفاء المفاجئ لقصة التجسس المثيرة للاهتمام، يشير إلى أن بعض الأشخاص في المناصب العليا في الإدارة الأمريكية ووسائل الإعلام كانوا يخشون أن تعرّض القصة الكاملة شخص ما للإحراج.

هنا لابد من الإشارة إلى أن تقرير الاعتقال الصادر عن مكتب التحقيقات الفيدرالي ودوائر التحقيقات الجنائية التابعة للبحرية بحق جوناثان توبي الموظف الحكومي الأمريكي الذي كان يعمل في الهندسة النووية، كانت نتيجة، أنه وزوجته ديانا قد سرقا معلومات حساسة للغاية حول أنظمة الدفع النووي وتصميمات الهيكل للجيل القادم من أسطول الغواصات النووية من طراز “فيرجينيا” التابعة للبحرية الأمريكية، وقد تم القبض عليهما بعد محاولاتهما المتكررة بيع معلوماتهما السرية لمن اعتقدا أنه قوة أجنبية.

بعد يومين من الاعتقال، مثل الزوجان أمام المحكمة في مرتينسبورغ في ولاية فرجينيا الغربية، وأُمروا بالبقاء في السجن تخوفاً من إمكانية هروبهما. هنا، يبدو كل شيء على ما يرام حتى الآن، ولكن الجزء المثير للاهتمام من القصة، أن من ينوي شراء المعلومات على يبدو، ليس من الخصوم الواضحين مثل روسيا والصين، بل كان بلداً صديقاً ظاهرياً، ولم يتم تحديده.

من الواضح أن جوناثان وديانا توبي ظنا أنهما كانا يبيعان معلوماتهما ​​ لجهاز استخبارات دولة أجنبية، لكنهما في الواقع، كانا على اتصال بمكتب التحقيقات الفيدرالي الذي انتحل صفة ممثل لقوة أجنبية، والذي سمح لهما بتنظيم نقاط ميتة في ولاية بنسلفانيا، وفرجينيا، وفرجينيا الغربية ودفع لهما المال لمواصلة تزويده بمادة جديدة على بطاقات الكمبيوتر الرقمية الصغيرة قبل الوقوع بالفخ والاعتقال.

أما عن كيفية معرفة مكتب التحقيقات الفيدرالي عن الزوجين، فهو جزء آخر مثير للاهتمام من القصة. ففي نيسان 2020، أرسل الزوجان طرداً يحتوي على كتيبات إرشادية ومواد أخرى تتعلق بأنظمة الدفع إلى بلد أجنبي، إلى جانب عرض لإنشاء علاقة سرية مقابل الدفع بعملة مشفرة. وبطريقة ما انتهى المطاف بالطرد في أيدي شخص ما في النظام البريدي الأجنبي أو الحكومة، ووصل في النهاية دون اسم بعد ثمانية أشهر إلى الملحق القانوني لمكتب التحقيقات الفيدرالي، متضمناً ملاحظة مكتوب فيها “يرجى إرسال هذه الرسالة إلى وكالة استخباراتك العسكرية، أعتقد أنه سيكون لهذه المعلومات قيمة كبيرة لبلدك، إنها ليست خدعة.”

على المرء أن يشك في أن المواد وصلت بالفعل إلى وكالة الاستخبارات الأجنبية التي تم إرسال المواد إليها، حيث كان يُعتبر أن التعامل معها صعب للغاية، لذلك تم إرسالها إلى المسؤولين الأمريكيين دون الكشف عن الاسم للتخلص منها.

حُجبت الوثائق المتعلقة بالاعتقال والجرائم التي ارتكبها الزوجان بشكل كبير، لذلك من الصعب إلى حد ما معرفة ما حدث بالضبط خاصة أن توبي، الضابط السابق في البحرية، شغل مناصب رفيعة، تضمنت الخدمة في مكتب رئيس العمليات البحرية، الأمر الذي كان سيمكنه من الوصول إلى ما هو أبعد من التفاصيل المشفرة السرية للغاية للمستوى التالي لتكنولوجيا الغواصات. وهي المعلومات التي تمت مشاركتها فقط مع بريطانيا العظمى، وفي خطوة سياسية حديثة مع أستراليا، حليفتا  الولايات المتحدة  اللتان ستنشران غواصات تعمل بالطاقة النووية في المحيط الهادئ ضد الصين.

جدير بالذكر أن،  الوثائق التي ذُكر إن الزوجان توبي سرقاها وحاولا بيعها، أنتجتها منشأة حكومية أمريكية غير معروفة، وهي مختبر “بيتيس” للطاقة الذرية في غرب ميفلين بنسلفانيا.

إن أحد الجوانب الأكثر إثارة للاهتمام في القضية، يتجلى في السؤال عمن قد يكون المشتري المحتمل للتكنولوجيا المسروقة، فبناء الغواصات النووية ليس على رأس قائمة الأولويات لأي دولة، سوى حفنة صغيرة من الدول التي تمتلك طموحات عالمية أو إقليمية يمكن دعمها من خلال امتلاك سفن قادرة على حمل أسلحة نووية بصواريخ كروز، ويمكنها البقاء تحت الماء لعدة أشهر في كل مرة.

يمكن لألمانيا أن تصنع مثل هذه السفن ولكن ليس لديها احتياجات دفاعية تتطلب مثل هذه الوسيلة، وكذلك الأمر بالنسبة لفرنسا، وربما تكون اليابان وكوريا الجنوبية متلقين أكثر قبولاً لا سيما أن لديهما القواعد الصناعية والعلمية التي يمكن أن تستفيد من التكنولوجيا وتستخدمها إذا اختارا السير في هذا الطريق.

لكن، بالطبع، هناك دائماً “إسرائيل”، والتي تطفو على السطح، عندما تكون هناك قصص تجسس ترتكبها دولة صديقة ضد الولايات المتحدة. في هذه الحالة، بطبيعة الحال، فإن الإسرائيليين، إذا استهدفهم الزوجان توبي، فإنهما ظاهرياً، لن يسعيا إلى هذا النهج، وقد يكون هذا هو السبب في أن المعلومات التي تم إرسالها في الطرد- ربما إلى الموساد- تم التكتم عليها لأكثر من ستة أشهر. ومع ذلك، هناك تشابه واضح بين ما اتجه الزوجان توبي لفعله، وقضية جوناثان بولارد في ثمانينيات القرن الماضي، حيث سرق بولارد -جاسوس إسرائيلي ومواطن أمريكي يهودي، ومحلل استخبارات مدني سابق في القوات البحرية الأمريكية-  غرفة كاملة مليئة بمواد دفاعية بالغة السرية، ثم حاول بيع المعلومات الاستخباراتية للعديد من الحكومات الأجنبية قبل أن “يصبح متديناً” ويجد مشتر في “إسرائيل”.

أصبح الجاسوس الأكثر إيذاءً في تاريخ الولايات المتحدة، وبعد القبض عليه ومحاكمته وإدانته وقضاء ثمانية وعشرين عاماً في السجن الفيدرالي، تم الإفراج عنه بشروط ولم يُسمح له بالسفر. وحيث أن إدارة دونالد ترامب لم تجدد الإفراج المشروط في عام 2020 انتقل إلى فلسطين المحتلة، حيث استقبله في المطار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي قدم له أوراق الجنسية، وأُعتبر بطلاً وسُميت ساحة في مدينة القدس المحتلة باسمه. لذا، يصبح السؤال الذي يجب طرحه، هل يعيد التاريخ نفسه مع توبي؟.

يرى محللون أن “إسرائيل” كانت بالفعل المستفيد من مخطط توبي، فمن المعروف على نطاق واسع أن “إسرائيل” هي الدولة “الصديقة” الأكثر عدوانية ونجاحاً في التجسس على واشنطن، حيث يدعمها مجموعة من الأثرياء ورجال الدين ذوي النفوذ الذين يعملون بجد “لمساعدتها” والتستر على جرائمها.

ويرى البعض أنه، في حال كانت الاستخبارات الإسرائيلية مهتمة بجمع تكنولوجيا الغواصات، فإنها ستتجنب الأسلوب الأحمق المحتمل مثل أسلوب توبي، وستعمل بدلاً من ذلك على مصادرها الأخرى في واشنطن لجمع المعلومات بشكل مستقل، مع مراعاة الفاصل الزمني بين إرسال الطرد بالبريد وشحنه إلى مكتب التحقيقات الفدرالي.

عندما كان بولارد نشطاً، كان مسؤول السفارة الإسرائيلية في واشنطن يسأله أحياناً عن ملفات محددة حسب الرقم، ما يشير إلى وجود عملاء آخرين رفيعي المستوى في العمل، ويجب افتراض أن هذا لا يزال هو الحال.

ولكن، بغض النظر عن هذه التكهنات، ربما يكون أقوى مؤشر على أن “إسرائيل” كانت المستفيد الأكبر من سرقه توبي، هو الصمت حول من يمكن أن يكون الهدف. لأنه عندما تصمت وسائل الإعلام والحكومة الفيدرالية بشأن السياسة الخارجية أو قضية الأمن القومي، فغالباً ما يعني ذلك أن “إسرائيل” متورطة، بشكل مباشر أو غير مباشر، وعلى الأغلب سيبقى الجمهور الأمريكي  دون علم بما يحصل.