الولايات المتحدة ومحاضرات الديمقراطية الزائفة
عناية ناصر
إنها قصة قديمة جداً تعود إلى أيام كانت العبودية قانونية في الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) ، حيث أصرت أمريكا على تقديم نفسها كنموذج ديمقراطي للعالم، بل حتى الحرب الأهلية الأمريكية الأكثر دموية لم تغير من توصيف واشنطن لذاتها في هذا الصدد.
وعلى مدى ثلثي القرن العشرين تقريباً، كان الفصل العنصري الأكثر إهانة وشراسة- غالباً ما يتم تطبيقه عن طريق الإعدام خارج نطاق القانون، والتعذيب والقتل – يُمارس في جميع أنحاء الولايات الجنوبية للولايات المتحدة، حتى عندما قاتلت جحافل من القوات الأمريكية زاعمة الدفاع عن الديمقراطية في حروب لا نهاية لها ، والتي خاضتها غالباً نيابة عن الطغاة في جميع أنحاء العالم.
إن الفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة تمثل النموذج الوحيد للديمقراطية والحكومة الشرعية حول العالم هي فكرة سخيفة بطبيعتها، لأنه إذا كانت “الحرية” التي يحبها السياسيون والمحللون الأمريكيون فيجب أن تقبل تلك “الحرية” التنوع على الأقل. لكن أفكار المحافظين الجدد التي فرضتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى الأربعين سنة الماضية أكثر مناقضة لمزاعم الحرية، “فالحرية” بالمفهوم الأمريكي، لا تكون إلا إذا كانت تتماشى مع المصالح والسياسات والأحكام المسبقة للولايات المتحدة.
لقد تم استخدام هذه العبثية الواضحة والممارسة في الغطرسة العمياء لتبرير استمرار الإدارة الأمريكية في الاحتلال الفعلي لدول من أفغانستان إلى العراق واستمرار الوجود العسكري الأمريكي في سورية في انتهاك صريح للقانون الدولي. وسابقاً حذر الفيلسوف السياسي البريطاني الراحل أشعيا برلين، من أن أي محاولة لفرض نموذج واحد فقط للحكم على العالم، مهما كان، ستؤدي حتماً إلى الصراع.
لذلك لا يتحقق السلام الدائم الحقيقي والتقدم إلا عندما تعترف المجتمعات الأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية والأكثر قوة عسكرياً بوجود أشكال مختلفة من الحكومات في جميع أنحاء العالم، وأنه ليس لديها الحق الإلهي في محاولة الإطاحة بهذه الحكومات. وهذا هو سر نجاح التجارة والتنمية والسياسة الدبلوماسية للصين، التي تسعى إلى إقامة علاقات متبادلة المنفعة مع الدول الأخرى بغض النظر عن النظام السياسي والأيديولوجية التي تتبعها. لقد ساعد نموذج الحكومة الصينية، الذي تعرض لمحاولة التشويه في الولايات المتحدة وحلفائها، البلاد على انتشال المزيد من الناس من براثن الفقر في الأربعين عاماً الماضية أكثر من أي دولة أخرى.
وهي، أي الحكومة الصينية، تعمل على تمكين شعبها من خلال الازدهار المتزايد والأمن الاقتصادي والكرامة الفردية، وهذا هو السبب في أن الصين أصبحت نموذجاً مثيراً للإعجاب ويتم تقليده بشكل كبير في عدد من المجتمعات، وهو ما يفسر بدوره إحباط الولايات المتحدة وغضبها تجاه الصين.
إلى أي مدى يمكن القول إن نظام الحكم في الولايات المتحدة ديمقراطي وهو على مدى نصف القرن الماضي قاد تدهور مستويات معيشة الأمريكيين؟. لقد مكنت الواردات الصناعية من الصين من منع التضخم في الولايات المتحدة، وخفض أسعار السلع المصنعة في أمريكا. بالمقابل، تُظهر أنماط العدوى والموت في جائحة كوفيد-19 أن العديد من مجموعات الأقليات العرقية في جميع أنحاء الولايات المتحدة بما في ذلك الأمريكيون من أصل أفريقي والآسيويون والأسبان والأمريكيون الأصليون الذين ما زالوا “محبوسين” في “محمياتهم” الفقيرة لا يزالون يتعرضون للتمييز في العديد من الجوانب. وإلى أن يتم معالجة هذه المظالم الكبيرة أو على الأقل تخفيفها إلى حد كبير، فإنه من غير المناسب أن يستمر قادة الولايات المتحدة في إلقاء محاضرات على الآخرين حول الديمقراطية.