الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

روجيه غارودي

حسن حميد

يكاد المرء لا يصدّق ما يرى، وما يقرأ، وما يعي، وهو يعدّد الفرص الوازنة التي عرفتها حياتنا ونحن نواجه ضغوط الحياة، وضغوط القوة الظالمة، وإدارة الظهر لنا وللقيم النبيلة التي جعلناها كتابنا، واللامبالاة تجاه ما ننادي به، وما نفنّده وما نبديه من أسباب وموجبات تروم حقّنا في الحياة فوق أرضنا، وطيّ تاريخنا ثلاثي الأبعاد (الماضي والراهن والمستقبل)، وما تقتضيه معاني السيادة ومتطلباتها!.

فرص كثيرة، ذهبية أو تكاد، عَرَضت لنا، وعرفناها، ووعينا أهميتها، ولكننا لم نستثمرها الاستثمار الحقيقي، أعني الاستثمار الذي يبني ويحرّض الآخرين (أهل الرأي والمكانة) كي يغادروا مربّع الخوف أو الإخافة، وينطقوا بالحقّ أو يقتربوا من قرى الحقّ وحدّدوها حين يتحدثون عن قضيتنا. من هذه الفرص الثمينة التي عشناها ووعيناها، تجربة المفكّر الفرنسي روجيه غارودي (1913-2012) التي عرفت تقلّبات كثيرة، ومغايرات كثيرة أيضاً لأنّه كان يبحث عن الحقيقة، وعن جوهر القضايا الكبرى في عالمنا، ومنها القضية الفلسطينية، ليبدي ما أحاط بها من ظلموت، وعماء، وتوحش، وتلفيق، وكذب متعدّد الرؤوس والأيدي والألسن في آن.

روجيه غارودي الشيوعي منذ عام 1937، غادر الشيوعية لأنّه رأى في أفكارها، وهو رجل ناضج، غير ما رآه فيها وهو شاب، لذلك كان صاحب نظرة نقدية، وصاحب صوت جهير بأنّه أمضى سنوات من عمره وهو في حالة حيرة فكرية. وروجيه غارودي وبعد أن رأى ما حدث في مخيمي صبرا وشاتيلا 1982، غادر أفكار التدليس، والكذب، والنفاق الإعلامي، ونطق بالحقّ بأنّ الظلموت يطال الفلسطينيين أرضاً وبشراً ومعنى منذ عام 1917، حين أعطت بريطانيا وعد بلفور، فأسّس الصهاينة عليه وبموجبه بعدهم السياسي. وروجيه غارودي هو الذي راجع الأفكار التي نَظَمت تفكير العالم، قديمها وجديدها، فقال الكثير عن النازية والصهيونية والفاشية، وما أحدثته من أذيّات وخراب، ومانادت به من توجّهات أنفاسها أنفاس الطواغيت، وآثارها هي الآثار التي خلّفها الطواغيت سيراً لهم.

روجيه غارودي الذي تزوّج امرأة فلسطينية انطلاقاً من إيمانه بحقّ الفلسطينيين في بلادهم، راجع الأفكار والقولات والعقائد التي آمن بها الصهاينة فقال ما أغضبهم، لذلك أوذي، وحُرم من المنابر الإعلامية، ومن النشر، ومن حضور الملتقيات العالمية. وللأسف لم ننتبه إليه الانتباهة الضَّافية كي يتشجّع مفكرون وأدباء وفنانون وإعلاميون وأهل رأي ليمشوا في طريقه. تقدير غارودي في بلادنا العربية كان تقديراً لإسلامه في عام (1982)، وللكتب التي كتبها عن الإسلام، وهذا أمر مهمّ جداً، ولكنّه لم يقدّر كصاحب عقل مؤثر في الثقافة العالمية عندما قال: فلسطين لأهلها الفلسطينيين، وعلى المدنية الغربية أن تخجل من سلوكها المشين وهي ترى مذابح دير ياسين، وكفر قاسم، والطنطورة، وصبرا وشاتيلا، ومخيم جنين، وعلى الأمم المتحدة أن تخجل من نفسها، وهي ترى تشريد الفلسطينيين وتهجيرهم المستمرين، وتدمير حياتهم المستمر يومياً أيضاً.

رحل غارودي، وهو يتمنّى العودة، مثل الفلسطينيين، إلى قرية زوجته ليرى بساتين الرمان، وكروم العنب، وبيارات البرتقال، وطيور البط التي تسبح في السواقي قرب البيوت.. ليقول عندئذِ: ها هو الحقّ يشرق أيضاً.. كما تشرق الشمس.

Hasanhamid55@yahoo.com