مؤتمر المناخ.. تباطؤ في معالجة مظاهر التغير المناخي
د.معن منيف سليمان
انطلقت قمّة المناخ في مدينة غلاسكو الاسكتلندية، حيث اجتمع قادة العالم لمناقشة الاستجابة العالمية لتغيّر المناخ، وتعدّ القمة في دورتها السادسة والعشرين الأحدث في سلسلة من الاجتماعات السنوية، لكن كثيرين يرون أنها الأكثر أهمية حتى الآن، نظراً لصدور تقرير علمي يحذّر من أن مؤشر تغيّر المناخ بات “باللون الأحمر” وهو ما يرمز للخطورة القصوى. ففي ظلّ ارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب انبعاثات الوقود الأحفوري التي يسببها الإنسان، يحذّر العلماء من أن إجراءً عاجلاً بات ملحّاً من أجل تفادي كارثة مناخية. وقد دلّت المواقف والمبادرات خلال قمّة غلاسكو على أن التباطؤ في معالجة مظاهر التغيّر المناخي سيجلب المزيد من المخاطر والمتاعب، وقد يؤدّي إلى إجهاض كثير من الرؤى الجادّة للحدّ من الانحدار المناخي نحو الأسوأ على كوكبنا.
ففي عام 1992، أمضيت معاهدة دولية تسمى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، وقد حدّدت هذه الاتفاقية القواعد الأساسية للتعاون العالمي في مكافحة تغيّر المناخ، لكن أغلب الدول لم تلتزم بقرارات قمّة باريس للحدّ من الانبعاثات المسبّبة للاحترار.
ومنذ ذلك الحين، عقدت سلسلة من المؤتمرات لتحديث هذه القواعد، كان آخرها عام 2015، عندما وقعت الدول اتفاقية باريس للمناخ. وقد وضع هذا الاتفاق هدفاً للحدّ من الاحتباس الحراري عند أقلّ من درجتين مئويتين، يفضل أن يكون 1.5 درجة مئوية، لتجنّب تغير كارثي للمناخ.
ونصّ الاتفاق على مراجعة التزامات الدول المشاركة بعد خمس سنوات أي عام 2020، لكن جائحة كورونا التي اجتاحت العالم فرضت تأجيل المؤتمر بعام واحد ليعقد هذه الأيام بمدينة غلاسكو.
وعلى الرغم من ثلاثة عقود من الحديث عن خطورة الأمر، فقد أخفقت جميع المؤتمرات السالفة في إيقاف غازات الاحتباس الحراري التي أدت إلى ارتفاع درجات الحرارة العالمية، وأصبح الكوكب الآن أسخن بمقدار 1.1 درجة مئوية على الأقل من مستوى ما قبل الصناعة، وهو آخذ في الارتفاع.
لكن بالنسبة لمؤتمر غلاسكو، فإن التوقعات بإحراز تقدم حقيقي أعلى من المعتاد، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المخاطر اقتربت من المنازل، وتسببت الفيضانات هذا العام في مقتل 200 شخص في ألمانيا، وضربت موجات الحرّ كندا الباردة حتى أن القطب الشمالي السيبيري كان يحترق.
العالم اليوم أسخن بمقدار 1.1-1.2 درجة مئوية عمّا كان عليه في عصر ما قبل الصناعة. إن الاحترار الذي يتجاوز 1.5 درجة مئوية سيؤدّي إلى مزيد من موجات الجفاف المدمّرة ونقص المحاصيل سيزيد من فرص حدوث مجاعة أكبر وانهيار النظام البيئي.
وأوضح العلماء أكثر من أي وقت مضى أن تجنّب درجات الحرارة الأكثر ضرراً يعني خفض انبعاثات الكربون العالمية إلى النصف بحلول عام 2030، وهو الموعد النهائي الذي يلوح في الأفق بما يكفي للتركيز على هذا الهدف.
مسؤولة البيئة في الأمم المتحدة، باتريسيا اسبينوزا، لخّصت بعمق وبتفاؤل مشهد العالم بعد التغيرات المناخية الكبيرة بقولها: “تواجه البشرية خيارات صعبة، لكنها واضحة”.
وفي مجموعة العشرين في روما، قالت مسوّدة البيان إن القادة سيتعهدون باتخاذ خطوات عاجلة لتحقيق هذه الأهداف، لكن التعهد الرئيس بالفعل بتقديم 100 مليار دولار سنوياً للبلدان النامية لتمويل مواجهة التغير المناخي، قد تم تأجيله حتى عام 2023.
إن الإجراءات الفعلية التي اتخذتها الدول لتنفيذ التزاماتها للتخفيف من حدّة تغير المناخ التي تبلغ قيمتها نحو 555 مليار دولار، تعهد الصين بوقف تمويل المشروعات التي تعمل بالفحم في الخارج، والتزامها بصافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2060، وكذلك اقتراح الاتحاد الأوروبي تشريعات جديدة بشأن الانبعاثات الصناعية التي تهدف لخفضها إلى 55 بالمئة دون مستويات عام 1990، وذلك بحلول عام 2030.
وتعكس هذه التحركات شعوراً متأخراً بالإلحاح، لكن الوقت ينفد في السباق لسدّ الفجوة بين التخفيضات الإجمالية للانبعاثات التي اقترحتها البلدان والمستوى المطلوب بالفعل.
فقد تعهدت نحو (وليس حوالي) 50 دولة بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي بالعمل على الوصول لهدف صفر انبعاثات كربونية بحلول منتصف هذا القرن. وتغطي هذه الاستراتيجيات أكثر من نصف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. كما وجد تحليل برنامج الأمم المتحدة، أنه إذا تم تنفيذ هذه الخطط بالكامل، فقد يؤدّي ذلك إلى خفض 0.5 درجة مئوية من ارتفاع درجة الحرارة بحلول عام 2100.
وسيؤدّي هذا إلى خفض مستوى زيادة درجة الحرارة العالمية إلى 2.2 درجة مئوية، وسيكون خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها لن تكون كافية وستؤدّي أيضاً إلى آثار دراماتيكية وقاتلة من الاحترار العالمي.
علامة أخرى تبعث على الأمل تتعلق بغاز الميتان من أن هناك إمكانيات كبيرة لإحراز تقدم بشأن هذه الانبعاثات التي تعدّ ثاني أكبر مصدر للاحترار. ويمكن كبح ما يصل إلى 20 بالمئة من هذه الانبعاثات من الوقود الأحفوري والنفايات ومن الزراعة بتكلفة منخفضة أو بدون تكلفة.
ومع ذلك، فإن المشكلة تكمن في أن العديد من أهداف الوصول إلى صفر انبعاثات مازالت غامضة، لا سيما بين أغنى 20 دولة في العالم، حيث إن عشرات الخطط طويلة الأجل غامضة تماماً، وتؤجل الكثير من الدول التخفيضات الكبيرة في الانبعاثات إلى ما بعد عام 2030، وهو ما يثير شكوكاً جدية حول ما إذا كان بإمكانهم تحقيق صفر ابنعاثات بعد 20 عاماً فقط.
ومنذ الحرب العالمية الثانية خيّم شبح الرعب النووي على المعمورة بسبب الكارثة المناخية التي يمكن أن تنجم عن استخدام السلاح النووي، ولم تجد له الدول الكبرى إلى هذا الوقت حلاً نهائياً أو على الأقل الحدّ من انتشاره على الرغم من كثرة المؤتمرات.
بالإضافة إلى ذلك لم تستطع المؤتمرات السالفة دفع البلدان نحو التوصل إلى اتفاق بشأن المسائل المتنازع عليها وتقديم إجابات على الأسئلة المصيرية، مثل المساعدة المالية المقدمة للدول النامية، وتعويض البلدان الضعيفة عن الخسائر الاقتصادية التي منيت بها نتيجة لتغير المناخ.
ومن المرجّح أن تظهر نقطة خلاف أخرى بشأن أفضل طريقة لإدارة نظام أسواق الكربون وأرصدة ائتمانات الكربون (ما يعرف بالائتمانات الخضراء) وهذه آلية من شأنها أن تسمح للدول المسؤولة عن إحداث التلوثبدفع ثمن الانبعاثات التي تتسبب فيها، وتسمح لمن لديهم اقتصادات أكثر مراعاة للبيئة (خضراء) ببيع “أرصدة ائتمانات الكربون”.
حتى إذا نجحت قمّة غلاسكو في الاتفاق على كل ما سبق ذكره، سيحتاج العالم إلى “أطر زمنية مشتركة” لجميع الأهداف الصديقة للبيئة التي حدّدت لكي يتمّ التأكد من أن جميع الدول تلتزم بما هو مطلوب لتحقيق ذلك. فالأمر ليس بالسهل.
ولا تزال كثير من البلدان، ولا سيما الناشئة، تعتمد اعتماداً كبيراً على الفحم لإنتاج الكهرباء، خصوصاً في سياق أزمة الطاقة العالمية الحالية. ولم يحدّد كذلك تاريخ واضح لتحقيق الحياد الكربوني، وقد اكتفت مجموعة العشرين بذكر “منتصف القرن”. وذلك موعد أقل دقة من أفق 2050، الذي طالبت بتبنيه الرئاسة الإيطالية لمجموعة العشرين، وقد التزمت الصين حتى الآن ببلوغ الحياد الكربوني العام 2060.
وسُجّلت خيبة أمل كبيرة بشأن ملف ساخن آخر مطروح في مؤتمر غلاسكو ويتعلّق بالمساعدات إلى الدول الفقيرة على صعيد المناخ. فالتزام أغنى دول العالم توفير مئة مليار دولار سنوياً بدءاً من 2020، لن يتحقق قبل 2023، مع أن تداعيات الأزمة المناخية تتفاقم مع موجات جفاف وقيظ مميتة وحرائق ضخمة وفيضانات. وغالباً ما تقف الدول الفقيرة في الصفوف الأمامية في مواجهة هذه الكوارث.
من جهتها، رجّحت المنظّمة العالميّة للأرصاد الجوية منذ أسابيع أنّ السنوات السبع من 2015 – 2021، كانت الأشدّ حراً على الإطلاق، وقد عدت أنّ المناخ العالمي “دخل في المجهول.
هذا وبينما يقرع رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي تستضيف بلاده المؤتمر الطبول للدول لكي تتخذ المزيد من الإجراءات، فإن حكومته تمضي قدماً في منح تراخيص جديدة لحقول النفط في بحر الشمال.
ويعتقد العديد من المطلعين أن قمة غلاسكو للمناخ لن تصل إلى هدفها المتمثل في الحصول على التزامات قوية من الدول بما يكفي لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية بنسبة 45 بالمئة بحلول عام 2030.
وهذا يعني أن العالم لن يكون على مسار سلس للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050. ومن المحتمل أن تكون هذه القمة أحد المؤتمرات الأخيرة التي يمكن أن تجنب الأرض تجاوز العتبة الدراماتيكية لتغير المناخ.
إن الانتقال إلى حيز الفعل خطوة لا مفرّ منها بعد الآن، وقد دلّت المواقف والمبادرات خلال قمة غلاسكو على أن التباطؤ في معالجة مظاهر التغير المناخي سيجلب المزيد من المخاطر والمتاعب، وقد يؤدي إلى إجهاض كثير من الرؤى الجادة للحد من الانحدار المناخي نحو الأسوأ على كوكبنا، فالتلطي خلف المصالح الذاتية لن يمنح أحداً صكوك الحماية ولن يجنّبه الانعكاسات الخطيرة على مجمل العملية الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية لأية دولة.
الشفافية في مواجهة ظواهر الطبيعة واضطراباتها يمكن أن تشكل قاسماً مشتركاً بين الجميع، بحيث يتسنى الخروج بآليات عمل موحدة تعود بالفائدة على العالم كله من جانب، وتعزز برامج التنمية البشرية والاقتصادية والتجارية لدى كل دولة على حدة من جانب آخر.
وعلى الرغم من جميع المعوقات، ربما تكون قمة غلاسكو النافذة الأهم لإنقاذ العالم، ومنح الإنسان بارقة أمل إضافية للمضي قدماً في تعزيز وجوده وأمانه ورفاهيته وتقليص خيارات تهديده، سواء تلك الناجمة عن فعل الطبيعة، أو بفعل أخيه الإنسان.