اللقالق البيض
عُوتِبتُ، من أصدقاء وقرّاءٍ كرام، أنّني كتبتُ مرّات عدّة عن الشاعر العالمي (رسول حمزاتوف)، ولم أتطرّق إلى تفاصيل من سيرة حياته من جهة، وإلى قصائده الشهيرة من جهة ثانية، وهم محقّون، لكن ظنّي بأنّ قصائده المنشورة في كتب ومختارات عدّة، وفت بواجبها، فجعلت قصائده بين أيدي الناس، ولاسيما في بلادنا العزيزة، فقد أصدرت له وزارة الثقافة منتخبات شعرية عدّة، ونشرت قصيدته الخالدة عن بلاده داغستان، ذات الطول والسعة، تحت عنوان (داغستان بلدي) وبآلاف النسخ، ثمّ أعيدت طباعة هذا الكتاب غير مرّة، وبصور مختلفة، وكان ظنّي أنّ سيرته الحياتية وأفكاره الدائرة حول الشعر والإبداع والناس والجمال والتقاليد والعادات والأعراف.. هي أيضاً سيرة شائعة ومتداولة لأنّها رافقت قصائده، وكانت أشبه بالمقدمات أو العتبات التي تمهّد لمعرفة القصائد وما فيها من براعة واشتقاق وبساطة مذهلة، وحكم صاغتها تجارب الحياة، وجماليات آتية من عالم الجبال والأودية والبراري والزهد بالترف ومطاردة طيوف المال والتوق إليه، لكن آراء الأصدقاء والقرّاء الكرام، مهمّة وجديرة بالاحترام، لأنّ الحديث عن الأعلام حديث سريع ومحدود لا تقضيهما سوى الأحياز التي تحكم حجم الزاوية؛ ولهذا فإنني هنا أسلّط الضوء على قصيدة رسول حمزاتوف الشهيرة (اللقالق البيض) التي كتبها عام 1965، أي وهو في الأربعينيات من عمره، حين زار مدينة هيروشيما اليابانية التي قُصِفَت بقنبلة ذرية أمريكية عام 1945، فقد وقف مذهولاً أمام النصب التذكاري لـ(سادا كاساساكي) الفتاة اليابانية ابنة هيروشيما، وكان عمرها سنتين حين قُصِفَت المدينة بالقنبلة الذرية، وماتت بآثارها السرطانية، وهي ابنة إحدى عشرة سنة، وقد راحت هذه الفتاة (سادا)، وهي على سرير المرض، تصنع من الورق المقوّى اللقالق البيض، فقد قصّت عليها أمّها أنّ أسطورة شعبية، أو حكاية ميثولوجية، تقول إنّ من يصنع ألف طير من طيور اللقالق البيض، ويطيّرها في الهواء، فإنّ أمانيه وأحلامه ستتحقّق، لذلك راحت (سادا) تصنع طيور اللقالق البيض الورقية وهي مريضة، ولكنّ قوتها الجسدية لم تمكّنها من إتمام صنعها لتصير ألف طير، فما صنعته وقف عند العدد 644 من طيور اللقالق البيض الورقية المستعدّة للتحليق في الهواء، لأنّها توفيت!.
رسول حمزاتوف، وحين وقف أمام النصب التذكاري لـ(سادا كاساساكي) خطرت بباله فكرة رائعة لتعميق المرامي التي هدفت إليها أسطورة اللقالق البيض التي تأتي إلى المدينة وضواحيها في أيام الدفء، فقد رأى حمزاتوف أنّ هذه اللقالق البيض هي الجنود الذين قتلتهم الحرب الوحشية بوسائلها الفتّاكة ومنها القنبلة الذرية، وهؤلاء الجنود سيعودون إلى قراهم ومدنهم وأهليهم على شكل طيور اللقالق البيض ليقولوا: إنّهم لم يغادروا الحياة ومعانيها، بل لم يغادروا قراهم ومدنهم، فها هم، وفي أوقات الدفء، يعودون على شكل اللقالق البيض، وأنّهم يتركون خلوات فضائية فيما بين سرب وسرب آخر كي يلتحق بهم النبلاء الذين يدافعون عن الحياة وجمالها كيما يصيروا طيور اللقالق البيض أيضاً.
هذه القصيدة لحمزاتوف صارت أغنية ردّدها الشعب الروسي كلّه، وصارت رمزاً للتضحية والفداء والبطولة في اليابان من جهة، مثلما صارت رمزاً مهمّاً يشير إلى وحشية الحرب وصلافة طغاتها من جهة أخرى. وهنا تتبدّى عالمية الشعر، وعالمية الحسّ الإنساني بالظلموت الذي طال كوكب الأرض فدنّس المقدّس وأقصاه، مثلما تتبدى عالمية معنى الخلود للذين ضحّوا بحياتهم كي تظلّ المعاني السّامية رايةً خفّاقةً عصيّةً على أعتى أساليب الموت والإبادة، رايةً تنشر أغنية اللقالق البيض المنادية: محبّة، محبة.
حسـن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com