مجلة البعث الأسبوعية

استفزاز غربي في البحر الأسود للتغطية على استهداف بيلاروس.. ماذا عن روسيا؟

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي

لا تزال أزمة المهاجرين المفتعلة على الحدود البيلاروسية البولندية تتفاعل وتلقي بظلالها على جميع الملفات العالقة بين كل من روسيا من جهة وحلف “ناتو” من جهة ثانية.

ومهما حاولت الدول الغربية التغطية على الهدف الحقيقي من افتعال هذه الأزمة فإن تصريحات المسؤولين الأوروبيين وخاصة البولنديين تفضح حقيقة الهدف الذي يُراد الوصول إليه من وراء هذا التصعيد الدراماتيكي لهذه الأزمة، وتحويلها من أزمة إنسانية تتعلّق بمهاجرين يحاولون اللجوء إلى دول الاتحاد الأوروبي هرباً من جحيم الحروب والفقر في بلادهم إلى ما يعتقدون أنه نعيم في الدول الأوروبية.

 

ديمقراطية زائفة

والحقيقة أن أزمة المهاجرين “اللاجئين” هذه عرّت الوجه الحقيقي للديمقراطية الغربية على حد قول الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو الذي أكد فيه أن الوجهة الحقيقية لهذه الأزمة ليست القضية الإنسانية بحدّ ذاتها، وإنما هناك عمل ممنهج لتسويغ الوجود العسكري الكبير على حدود بيلاروس الغربية، وهذا ما يعطي انطباعاً أكيداً بأن بيلاروس لا تنظر إلى المسألة في إطارها الضيّق، ولكنها تتناولها على أنها معبر لأمر أكبر من ذلك يتعلّق بالدرجة الأولى بزعزعة استقرار بيلاروس وصولاً إلى تغيير النظام الحاكم فيها وتعيين نظام آخر يكون قريباً أو تابعاً لحلف “ناتو”، الأمر الذي يبرّر وجود قوات قتالية من الحلف على حدود روسيا الغربية، وهذا يخالف التفاهمات القائمة بين روسيا والحلف.

إذن، تؤكد القيادة البيلاروسية أن المشكلة أكبر من مشكلة مهاجرين موجودين على الحدود، لأن أوروبا كلها تدّعي أنها تحترم حقوق الإنسان وبالتالي هي ملزمة قبل غيرها بقبول اللجوء إليها، وإلا فلماذا كانت تتبجّح طوال الفترة الماضية التي شهدت فيها منطقة الشرق الأوسط أحداثاً دموية بأنها حريصة على استقبال اللاجئين لأن ذلك يقع في صلب إيمانها بمبادئ حقوق الإنسان كما تدّعي.

ريبة روسية

ضمن هذا الواقع، لا ينبغي لأحد أن يتوقّع أن تكون النظرة الروسية إلى هذا الأمر هي نظرة مقصورة على أن الأمر لا يتعدّى كونه مشكلة تدفق للمهاجرين من أراضي بيلاروس إلى أوروبا، بل إن الجانب الروسي ينظر بريبة كبيرة إلى هذا التصعيد الكبير على الحدود بين بيلاروس وكل من بولندا وليتوانيا ولاتفيا التي تضامنت معاً في اتهام الحكومة البيلاروسية باستخدام أزمة المهاجرين على أنها حرب هجينة تخوضها ضد الاتحاد الأوروبي ردّاً على عقوباته الأخيرة ضدّها.

ومردّ هذه الريبة الروسية هو هذا التزامن الغريب بين أزمة اللاجئين (المهاجرين) المفتعلة على حدود بيلاروس التي لم تكن طوال السنوات الماضية ذات أهمية بالنسبة إلى الدول الأوروبية، وبين التصعيد الأوكراني الأخير ضد روسيا باتهامها بحشد أكثر من 90 ألف مقاتل على حدودها الشرقية، والرسائل التحريضية التي تبثّها السفن الغربية والأمريكية في البحر الأسود لأوكرانيا بأنها تقف خلفها في أيّ نزاعٍ عسكري يمكن أن يقع بينها وبين روسيا إذا ما أقدمت على تصعيد في إقليم دونباس بخلاف اتفاقية مينسك.

 

استدعاء لـ ناتو

وإذا نظرنا إلى التصريحات التي أطلقها رئيس وزراء بولندا، ماتيوش مورافيتسكي في هذا السياق، من أن حلف شمال الأطلسي لا بد أن يتخذ “خطوات ملموسة” لحل أزمة المهاجرين على الحدود مع بيلاروس، وأن كلاً من بولندا وليتوانيا ولاتفيا طلبت إجراء مشاورات بموجب البند الرابع من معاهدة حلف “ناتو”، حيث يمكن لأي دولة عضو أن تطلب ذلك إذا رأت أن وحدة أراضيها أو استقلالها السياسي أو أمنها عرضة للتهديد، طالباً من الحلف الإغلاق الكامل للحدود مع بيلاروس وبالتالي العمل على خنقها تحت هذا العنوان، فإن الأمر سيخرج إلى أنه ذريعة لمحاصرة هذا البلد وزيادة الضغط عليه وصولاً إلى إحداث ثورة برتقالية شبيهة بما حدث في أوكرانيا، وهذا بالضبط ما دفع الرئيس البيلاروسي إلى التهديد بقطع خط الغاز الروسي الواصل إلى أوروبا عبر بلاده، بل أبدى تطلعه إلى الحصول على منظومات صاروخية تكتيكية روسية من طراز “إسكندر-إم” لتأمين حدود بلاده مع أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وهذا طبعاً ينظر من خلاله إلى إمكانية استغلال الحشود العسكرية لكل من بولندا ولاتفيا وأوكرانيا على الحدود في غزو بلاده لقلب نظام الحكم.

 

تدخل أمريكي

 

ويؤكد فرضية العسكرة التدريجية لحلف شمال الأطلسي على حدود كل من روسيا وبيلاروس، ما أعلن عنه السيناتور الجمهوري في مجلس الشيوخ الأمريكي، مايك تيورنير، من أن الولايات المتحدة أرسلت للتو عسكريين إلى أوكرانيا على خلفية التوتر مع روسيا، داعياً بلاده إلى منح معلومات استخباراتية وأسلحة فتاكة للسلطات الأوكرانية، وذلك طبعاً بالتزامن مع إجراء سفن “ناتو” مناورات بحرية في البحر الأسود، الأمر الذي دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى القول: إن العسكريين الروس أشاروا إلى ضرورة القيام بمناورات مضادة، غير أنه دعا إلى التريّث في هذا الأمر، في إشارة إلى أنه لا يعتقد حقيقة أن الحلف يستطيع القيام بمثل هذه المغامرة، أو أنه لا يريد أن يمنح الحلف الفرصة لتحقيق أيّ هدف من أهداف مناوراته الاستفزازية، وخاصة اختبار قدرات روسيا على الرد.

ورغم أن روسيا أكدت مراراً أنها لم تخطط أبداً لأيّ تدخل عسكري في الأراضي الأوكرانية، مشددة في الوقت ذاته على حقها في حشد أي قوات عسكرية في أي مكان داخل أراضيها، غير أن الإدارة الأمريكية تصرّ دائماً على التحريض في هذا الاتجاه ضد روسيا، بالتعاون طبعاً مع بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية التي تستخدم عادة أداة لتسويق المزاعم الأمريكية.

وفي هذا الإطار جاء اتصال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، مع نظيره البولندي، زبيغنيف راو، حيث عمد إلى صبّ الزيت على نار الأزمة من خلال إبدائه دعم الولايات المتحدة للطرف البولندي في وجه “الاستغلال السخيف للمهاجرين الضعفاء من نظام الرئيس البيلاروسي” على حدّ زعمه، مدّعياً أن “تصرفات نظام لوكاشينكو تهدّد الأمن وتبث الشقاق وتهدف إلى صرف الانتباه عن تحرّكات روسيا على الحدود مع أوكرانيا”.

تصعيد بحري

غير أن حقيقة الأمر أن ما يجري في البحر الأسود من مناورات لدول الحلف بالإضافة إلى التصعيد الأخير من الجانب الأوكراني ضدّ روسيا، هو الذي يُراد من خلاله فعلياً صرف انتباه روسيا عن عمل ممنهج تقوم به الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة لزيادة الضغوط عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً على البلد الذي يعدّ بوابة روسيا الغربية الأخيرة نحو أوروبا في محاولة لقلب نظام الحكم به إما عسكرياً وإما من خلال ثورة ملوّنة، وبالتالي فتح المجال لحلف شمال الأطلسي للتمدّد إلى حدود روسيا الغربية وإحكام الطوق عليها من هذا المكان.

أخيراً

وفي المحصلة، بات واضحاً لدى الجانب الروسي أن كل ما يحدث على حدود بيلاروس مع كل من لاتفيا وليتوانيا وبولندا، إنما هو افتعال أزمة حدودية مع بيلاروس لتبرير الوجود العسكري الكثيف على حدود حليفه الاستراتيجي الذي يرتبط معه حسب توصيف البلدين بعلاقة وحدة، والوحدة هنا هي وحدة مصير إذا ما نظرنا إلى التهديدات المشتركة لكلا البلدين من حلف “ناتو”، وكذلك كل ما يحدث على حدود روسيا الجنوبية من استفزازات في البحر الأسود وفي الحدود مع أوكرانيا إنما هو محاولة رخيصة لشدّ انتباه روسيا نحو أوكرانيا في الوقت الذي يتم العمل فيه على غزو بيلاروس وقلب نظام الحكم فيها، لإحكام الطوق الأطلسي على روسيا، وهذا ما يبرّر حقيقة عدم مبالاة الجانب الروسي بالاستفزازات التي تقوم بها السفن الغربية في البحر الأسود.