الرحالة بين حلب والتصوير والرسم والكتب
حلب-غالية خوجة
للشرق سيرته التأويلية بكافة الفنون الكتابية والتشكيلية والموسيقية والتوثيقية، وللعالم العربي نصيبه الكبير من الفضول المعرفي لدى المستشرقين على مر الأزمنة، لا سيما منهم الرحالة والمصورين الفوتوغرافيين والرسامين والبحاثة والأدباء.
ولدمشق وحلب النصيب الأكبر من هذه الرحلة الاستكشافية، بما تختزنانه من العراقة على مر العصور من معالم سياحية ثقافية وفنية وتراثية وإنسانية، لفتت العالم إليها، وبجاذبية خاصة، فكانت مقصد الجميع وإبهارهم المتيع.
لذلك، اشتهرتْ تلك الرحلات السياحية الاستكشافية الثقافية البحثية المعرفية بتوثيقها بمختلف الوسائل، ومنها الرسم والتشكيل ثم التصوير بعد ابتكار الكاميرا.
اليوميات محرك ديناميكي
وممن زار حلب الشاعر الفرنسي لامارتين 1830 الذي أقام في حي “الكتّاب-غربي نهر قويق”، وذكرها وأهلها الطيبين في كتابه “رحلة إلى الشرق”، كما ذكرها شكسبير في مسرحيتين “ماكبث” و”عطيل”، ووصفها ورسمها الرحالة الرسام ألكسندر درموند عندما زارها عام 1747 في كتابه “أسفار”، ولوحاته ومنها قاعة العرش-قلعة حلب، مركّزاً على قبابها التسعة قبل زلزال حلب المدمر 1822.
وسبقه ولحقه لزيارتها والافتتان بها الكثيرون، ومنهم الرحالة المصور كورنيليس دوبران عام 1952، ثم عاد لزيارتها والإقامة فيها لغاية 1964، ومن مكان إقامته في خان الجمرك، استوحى عالماً جميلاً وثّقه في كتابه “رحلات إلى المشرق” الذي ضمّنه العديد من الصور، منها صورته الأكثر شهرة “بانوراما حلب”.
ولم تكن المدينة بمبانيها وعراقتها المحرك الديناميكي الجاذب الوحيد، بل كذلك عراقة أهلها وسلوكهم اليومي الحضاري، وهذا ما جسده الرسام لويس فرانسوا كاساس، الذي زار حلب عام 1785، عابراً للمدن السورية، موثقاً لذلك في كتابه “رحلة وصورة في سورية” المؤلف من 3 مجلدات تضم صوراً لرسوماته، في مجلده الأول مناظر الإسكندرونة وأطلال أنطاكيا ومناظر حلب.
كما ظهرت عام 1857 صورة لحلب في إحدى الصحف الفرنسية، وكانت زاوية التقاطها من جهة باب “قنسرين”، بينما فضاء الصورة فيتضمن عدة عناصر من تراث العراقة الحلبية، منها القلعة والجامع الأموي الكبير والمساجد الممتدة في أحياء حلب القديمة، والتي كانت، ذات زمن، مركزاً دينياً لجميع العالم.
أمّا على صعيد الترحال والتوثيق الحلبي، فنلاحظ أن العديد من الجهات الرسمية، والصالات التشكيلية، والجهود الفردية، قدمت في هذا المجال العديد من الكتب، ومنها كتاب “الفن التشكيلي في حلب”، للفنان الباحث طاهر البني، الذي يؤكد فيه على ما شهدته حلب من حركة حيوية لمستشرقين ورحالة وفنانين تشكيليين، قدموا إليها خصيصاً، منذ نهاية القرن الثامن عشر، وأثناء القرن التاسع عشر، من أجل تصوير معالمها التأريخية، وحياتها اليومية بين الأزقة والأسواق.
كما اهتمت عائلة “بوخة” الحلبية العريقة بالتوثيق، ولمع اسم ابنها ألبير جوزيف بوخة (1842-1929)، بفن التصوير، ويعتبر من أوائل الممتلكين لآلة التصوير، وبفنياته التقط صوراً مختلفة لحلب في تلك الفترة الزمنية، كما رافق الرحالة الأجانب، ومنهم الفرنسي جان ملكيور دو فوغويه 1861 أثناء زيارته للعديد من القرى الأثرية شمال غرب حلب، وضمّنَها في كتيب توثيقي تظهر فيه صور لآثار قلعة سمعان أيضاً.
اتسمت هذه العائلة بمواهب متنوعة، منها التصوير والرسم، فهناك لوحة لناعورة حلب رسمها أحد أفراد بوخة، ولوحة لم تكتمل لقلعة حلب بريشة ألبير بوخة.
وللزائر لمتحف حلب الوطني، وتحديداً، صالة الفن الحديث، أن يتأمل ثلاث لوحات لجماليات هذه المدينة، تمثل أولاها مشهداً لأحد أسواق حلب القديمة وحركتها التجارية وبيئتها الاجتماعية وطقوسها اليومية، وتعكس ثانيتها منظراً طبيعياً عاماً لحلب، وتركّز ثالثتها على الجامع الأموي الكبير، موثقة “منارته” المتميزة والمتفردة، ودلالتها على مكانة المدينة علمياً ومعرفياً وثقافياً وأهمية استراتيجية وتجارية واقتصادية وحضارية.
القذائف درست معنا الصمود
وضمن هذا المجال، سألنا الفنان يحيى كعكة كأحد الرحالة المعاصرين عن تجربته، ليجيبنا: أكتب بالمعرفة والفن والترحال من أجل الإنسان والحوار مع الغير والهدف هو السلام.
لكن، ما مفهومك للسلام؟
أجاب: المحبة، العمل، الفن، الموسيقا، المساعدة، تطوير الذات والآخر في الأمور العلمية والطبيعة، والحرب الإرهابية على سوريتنا هي ضريبة السلام وضريبة محبتنا لهذه الأرض، ودفاعنا عنها كواجب.
وتابع: وبحكم عملي كمدرس في مخبر جامعة حلب- كلية التربية، حضرت القذائف معنا الدروس لتتعلم منا الصمود مع العلم، والشظايا شاهدة على متابعتنا لعلمنا، وتعليمنا، وتجذرنا في هذه الأرض، وانتمائنا لهذا الوطن العريق الذي لن نتخلى عنه أبداً.
وعن علاقة الفن بالانتماء، رأى أنها معاملة ومعادلة متماثلة مع مسيرة الحب الحقيقي في الانتماء للضمير والأرض والإنسان.
مدرسة المقاومة الفنية
أمّا كيف يرتقي الإنسان إلى إنسانيته من خلال الفن والترحال؟
فأخبرنا: الفن ضوء آخر لمعنى الحياة الذي لا يموت سواء كان لوحة، موسيقا، نصاً، رمزاً، منحوتة، والفنان مضطهد، في الواقع، بسبب أفكاره ومبادئه، فأنا لا أحب الانتهازية والمناصب والمصالح، ولا بعض المسؤولين الذين يهتمون بمصالحهم الشخصية والتجارية الربحية على حساب المبادئ والعدالة الإنسانية، لأنهم لا يعرفون خدمة الإنسان بل خدمة ذواتهم فقط.
وأكد: أعمل على الفن الترحالي، ومبتكر مدرسة أكاديمية باسم “مدرسة المقاومة الفنية”، المقاومة ليست إرهاباً، وهي مشروعي الذي أعمل عليه، وأشكّل أعمالي من شظايا المباني زجاجاً أو حجارة متهدمة تمثل ما عايشته وعايشه السوريون، ومطرقتي لا تتألم من الفن، بل من نقصان الإنسانية، وريشتي لا تتعب من الألوان ورسالتها لأن العمل عبادة.
الفنون وثائق لا تموت
وبهذا تكون فنون التصوير والرسم والنحت والكتابة من العوامل البصرية الاستبصارية التوثيقية لذاكرة الزمان والمكان، وتبرز هذه العلاقة بين الترحال والفن كمزيج روحاني راحل بجمالية ومترحّل بين الواقع والمخيلة واللون والأبجدية والموسيقا، سواء رحلت إلى المكان، أو ارتحلت إلى الأمكنة كما تفعل القصائد والأفلام والروايات واللوحات والمنحوتات والأصوات ومنها صوت صباح فخري.