ثقافة كحالة معرفية
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
مثقفون أم عمال ثقافة عنوان استوقفني لأحد الكتاب يتساءل من خلاله عن ما نطلق عليه لقب مثقف وإلى أي مدى أثبت حقيقته وجدارته بهذا اللقب وهل يا ترى يوجد لدينا مثقف حقيقي؟
أعتقد الإجابة على هذه التساؤلات تتجلى حول فكرة أن الثقافة حالة معرفية وإحاطة بالعصور والناس والقيم والثقافات، وبالتالي القدرة على اتخاذ موقف منها وتبيان الخطوط والألوان وشرحها بحكمة للناس، فالثقافة لها مستويات، إذ أن هناك مثقفون على مستوى معرفة الحياة والكتب والجغرافيا وبعض التاريخ وبعض معلومات الانترنت…الخ، وهناك مثقفون أرفع قليلاً يعرفون الدول وعلاقاتها وتاريخها وقيمها ومعاييرها ومنظوماتها، وهناك ناس يصلون في الثقافة لدرجة الفلسفة والحكمة، وإذا توقفنا عند المستوى الأول نجد أنه لدينا الملايين من المثقفين، وفي المستوى الثاني ربما لا يوجد لدينا أحد أبداً،إضافة إلى وجود رؤية قاصرة عن إدراك حقيقة المثقف، من هو وما هو دوره، وما هي القيم التي يحملها، إضافة إلى أن هناك ممن يطلقون على أنفسهم لقب مثقفين كرسوا لدى الناس فكرة أنهم يعيشون غربة مع المجتمع، رغم أنهم جزء من هذا المجتمع، وما يختلف أنه قد تكون رؤيتهم للثقافة والحياة أبعد وأعمق، فينكفئون في عالمهم الخاص بهم، يرون الأمور بطريقة تختلف عن الآخرين، فالمرأة الموظفة مثلاً تنظرللحياة بطريقة مختلفة عن نظرة المرأة العاملة بالأرض، وهذه القطيعة تؤدي إلى قطيعة في الحوار والفكر وبشعور مرير بالغربة عن المجتمع، ونتيجة لهذه الرؤية وُجدت في الوسط الثقافي خصومات وصداقات سطحية، متبدلة ومتقطعة، إذا نظرنا إليها بجدية لأدركنا أن الخصومة ليست خصومة والصداقة ليست صداقة، لارتباطها بالمصالح المتغيرة وفقاً لتجاذبات غير مبدئية، والكثيرون ليسوا بحاجة إلى مثل هذه العلاقات، فالمثقف الحقيقي هو إنسان تربطه علاقات ممتازة مع الكثير من الناس، وليس من المهم أن يكونوا كلهم من المثقفين.
وإذا طابقنا ما بين الثقافة والمثقف كمفهوم وبين ممارستها الحياتية في واقعنا الراهن نرى أن هناك الكثير من الذين لا يحملون منها إلا اسمها، لأنهم لم يتمثلوا في ممارستهم للثقافة الأخلاقيات التي تمنحهم هذا اللقب، وتأكيداً على ما أوردنا حول الدور الثقافي الذي يؤديه المثقف في نشر الوعي وتوافق الفكر مع السلوك، نرى أن الثقافة تعيش أزمة حقيقية بسبب وجود المتطفلين عليها، وما أكثرهم، فإذا عدنا بالتاريخ إلى النصف الثاني من القرن الماضي وحتى نهايته نلحظ اختلافاً كبيراً بين المثقفين في ذلك الزمن عن مثقفينا الآن “حتى لو اختلفت معطيات الثقافة بين الأجيال”، فالمرء يجهد كثيراً في العثور على شخصيات تحمل مصداقية الثقافة وتجسدها قولاً وفعلاً، حيث الثقافة وصلت في عصرنا إلى حال يشوبها الكثيرمن الضبابية بطغيان ثقافة تفتقد للموهبة والإبداع، وهنا يحضر السؤال هل يعود السبب للمؤسسات الثقافية الرسمية في ترسيخ هذه الحالة من التهميش الثقافي، أم أن العلة في المثقفين أنفسهم؟ ولو أنه لا يمكن وضع المؤسسات الثقافية والمعنية بالثقافة، كلّها في سلّة واحدة، فثمة مؤسسات تجتهد في الكشف عن المواهب، وثمّة مؤسسات عطلت نفسها بنفسها، واكتفت من دورها في هذا المجال ما ينجز وظيفة فحسب، وفي الحالتين معاً لا يمكن الحديث عن حراك ثقافي يؤكّد أنّ الحياة ولودٌ بالمواهب دائماً، وأنها لا تعرف العطالة، أو الاستقرار، أوالسكون، ومهما يكن من أمر أن عدداً غير قليل من المواهب الجديدة لا يحسن تسويق نتاجه أو نفسه، فإن ذلك لا يعفي المعنيين بالثقافة من مشاركتهم في تعزيز حال الثبات التي تنفي القول بولادة أصوات إبداعية من حقها، ومن واجب سواها، أن تنال ما يليق بها من حفاوة وتقدير، وإذا كانت الثقافة في أرقى مدلولاتها هي تمكين العقل في مواجهته للحياة وتعزيز استيعابه لحركة تطورها ونموها، فإنها تمثل قارب نجاة وجسراً نحو المستقبل.