مجلة البعث الأسبوعية

“مؤتمر دمشق”.. رسالة سورية لمجتمعات اللاجئين تقطع الطريق على المتاجرين اللاجئون السوريون .. “أزمة مفتعلة”  وظاهرة ريع سياسي واقتصادي لدى دول اللجوء

البعث الأسبوعية- علي اليوسف

كل الآمال معقودة على أن يمثل مؤتمر اللاجئين الذي تستضيفه دمشق توظيفاً سياسياً منطقياً، وأن يسهم في إبراز معالم مسار جديد ممكن أن يتمخض عنه. هذه الآمال ليست بعيدة المنال، خاصةً مع انتصارات الجيش العربي السوري على الإرهاب، والمصالحات الداخلية وعودة الكثير ممن غرر بهم إلى حضن الوطن وليس آخرها محافظة درعا، وبدء عودة الدفء للعلاقات العربية مع سورية. لذلك من الطبيعي أن يكون لمؤتمر اللاجئين الحالي وقع آخر غير سابقيه، خاصةً أنه منذ الجولة الرابعة – 30 تشرين الثاني إلى 4 كانون الأول 2020-  أدرج وفد الحكومة السورية في مناقشات اللجنة الدستورية ملف عودة اللاجئين كبند رئيسي من باب تخفيف أعبائهم على الدول المستضيفة، وفتح المجال أمام الراغبين بالعودة إلى الوطن الأم، وقطع الطريق على من يتاجر بهذه القضية الإنسانية.

كما أنه من المنطقي جداً أن يكون هذا المؤتمر تتويجاً لانجازات الدولة السورية المذكورة أنفاَ، وأن يمثل رمزاً لنهاية مرحلة من عملية التسوية السورية، وذلك عبر استكمال حلقة الانتصارات بعد كل هذا الصبر الاستراتيجي، والسماح للاجئين بالعودة إلى وطنهم الأم. لكن للأسف لا تزال الدول الغربية تواصل اتخاذ موقف مدمر، ولا تريد مساعدة الحكومة السورية في سعيها لعودة السوريين اللاجئين إلى وطنهم، وبدلاً من ذلك تمعن في العقوبات التي تعيق إعادة الإعمار، وتعزز من وجودها غير الشرعي على الأرض السورية الذي يحول دون استقرار الوضع في “المناطق المحتلة”.

بيئة العودة

منذ انعقاد المؤتمر حول عودة اللاجئين في تشرين الثاني 2020 بدمشق، عاد عشرات الآلاف من المهجرين في الداخل إلى منازلهم في مدنهم وقراهم، كما عاد الآلاف من خارج سورية. ومذ ذاك الحين مازال العمل مستمراً من أجل تسهيل إجراءات العودة للاجئين والمهجرين، ومراسيم العفو التي أصدرها الرئيس بشار الأسد تعكس الإرادة الصادقة في إعادة المهجرين. ومنذ تأسيس هيئة التنسيق السورية الروسية لعودة اللاجئين بلغ عدد العائدين من المهجرين (في الداخل) مليونين ونصف المليون، بحسب تصريحات رئيس مركز التنسيق السوري-الروسي، الفريق أول ميخائيل ميزينتسيف.

ومع تقدم الانجازات الميدانية والسياسية، تسارعت خطوات تسهيل عودة اللاجئين رغم كل العقبات المتمثلة بالحصار الاقتصادي والعقوبات التي تحرم سورية من أبسط الوسائل الضرورية لإعادة الإعمار. ولكن حتى الآن لا زالت الأنظمة الغربية بقيادة النظام الأمريكي والدول التابعة له في جوار سورية، وتحديداً تركيا تحاول ـخلق ظروف مفتعلة لدفع السوريين للخروج الجماعي، وبعد ذلك تحويل قضيتهم الإنسانية إلى ورقة سياسية للمساومة. ومع ذلك، تسعى الدولة السورية منذ سنوات للحصول على دعم المجتمع الدولي من أجل إطلاق مرحلة إعادة الاعمار وعودة اللاجئين، لكن الأنظمة الغربية تعرقل كل الحلول المطروحة وتربطها بضرورة تقديم تنازلات عن الثوابت الوطنية وهو الأمر الذي لن تتخلى عنه سورية تحت أي ضغط.

وعلى خلاف الصورة الذهنية المتشكّلة عبر سنوات في شأن مواقف اللاجئين السوريين في الخارج، أثبت إقبال الكثير منهم على الانتخابات الرئاسية الأخيرة وجود انتماء وطني لبلدهم الأم، لكن حتى هذه الشريحة الكبيرة لم تُعزل عنهم تأثيرات استغلال الملف من قبل بعض دول اللجوء، فما الذي يمنعهم من العودة؟.

تتحدث مصادر بحثية مستقلة أن العدد المسجل للاجئين السوريين وصل مع نهاية عام 2019 إلى نحو 6.7 ملايين لاجئ، يتوزع القسم الأكبر منهم في الدول المجاورة، لكن إلى الآن ليست ثمة مؤشرات موضوعية يمكن من خلالها الوقوف على حقيقة الموقف السياسي لمجتمع اللاجئين، وتالياً تقييم دور هذا العامل في اتخاذ قرار العودة أو البقاء. لكن الأكيد، أن ثمة بعداً سياسياً في مواقف عدد من دول اللجوء تجاه عودة اللاجئين، إذ إن تلك الدول تربط العودة بالحلّ السياسي أو التسوية، وتحاول الإمساك بورقة اللاجئين للتأثير في ملفّات هذه التسوية، وبالطبع هناك من يريد أن يبقى ملفّ اللاجئين ورقة ضغط ضدّ دمشق، أو ورقة ضغط ومساومة تجاه دول أخرى، والمثال على ذلك ما يفعله النظام التركي حيال الاتحاد الأوروبي. صحيح أن اللجوء السوري، إضافة إلى أنه يمثل ظاهرة عالمية، بل أكبر ظاهرة لجوء في العالم اليوم، فهو أيضاً يمثل ظاهرة ريع سياسي واقتصادي لدى مجتمعات ودول اللجوء.

منذ موجات اللجوء الأولى، ساد اعتقاد عام رسخه الإعلام العالمي، مفاده أن السمة الغالبة للبيئة السياسية لمجتمع اللاجئين هي معارضة، وتالياً فإن عودة أفرادها إلى بلادهم مرتبطة بتغيير سياسي داخلي ما. إلا أن تلك الصورة الذهنية المتشكلة عبر سنوات، تعرضت للاهتزاز خلال انتخابات عام 2014 حين بات لبنان مؤشراً صارخاً، وكذلك في الانتخابات الأخيرة.

الموقف الروسي

منذ بداية الحرب الإرهابية على سورية، كان الدور الروسي ملفتاً كعادته بعدم ترك أصدقائه يواجهون كل هذا الكم من الإرهاب، وقد سجل الرئيس فلاديمير بوتين موقفاً يسجل له بأن كانت له اليد الطولى في إعادة هندسة الشرق الأوسط والمنطقة ميدانياً وسياسياً، واليوم نرى بلاده ترعى مؤتمر اللاجئين ونصب أعينها هدف وحيد هو التركيز على إعادة البناء في سورية. ففي المؤتمر السابق الذي عقد في دمشق 11- 12  تشرين الثاني الماضي، قال بوتين: “هناك أكثر من 6.5 مليون لاجئ خارج سورية، معظمهم مواطنون قادرون على العمل ويمكنهم المشاركة في إعادة بناء بلادهم”، بحسب نسخة من الحوار خاصة بالكرملين.

منطقة أردوغان “العازلة”

كان ولا يزال للنظام التركي مطامع عثمانية في سورية، ومنذ بداية الحرب استغل أردوغان الموقف وفتح حدود بلاده أمام الإرهاب العابر للحدود، بل وقام بإنشاء كيانات إرهابية مرتبطة به، وزودهم بالأسلحة لتحقيق أحلامه الطورانية، ومن بين هذه الأحلام تأسيس منطقة “آمنة” أو “عازلة”.

وبعد وصول اللاجئين السوريين الأوائل في عام 2012 إلى تركيا، تراجع قبولهم شيئاً فشيئاً. والآن يريد الرئيس أردوغان إعادة كسب الناخبين، وفي أحاديثه يؤكد أنه ينوي توطين مليونين من اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، لكن منظمة العفو الدولية تشك في هذا. فقد قالت المنظمة في تقرير نشر في 25  تشرين الأول 2019 إن تركيا ترسل قسراً لاجئين سوريين إلى منطقة سورية بالقرب من الحدود حيث تهدف إلى إقامة “منطقة آمنة”. وذكرت في تقريرها أن اللاجئين الذين تحدثت إليهم اشتكوا من تهديدهم أو إجبارهم من قبل الشرطة التركية على التوقيع على وثائق تفيد بأنهم سيعودون بمحض إرادتهم.

 

الموقف الأمريكي والأوروبي

من المنطقي أن يشارك الاتحاد الأوروبي في هذا المؤتمر وغيره كونه، أي الاتحاد الأوروبي، ينادي بالديمقراطية والحرية ويرفع شعارات براقة عن حقوق الإنسان هنا وهناك، لكن ما نجده هو على العكس من ذلك إذ نراه يضع العصي في العجلات، ويضع حججاً واهية مثل أن “الشروط الحالية في سورية لا تشجع على الترويج لعودة طوعية”. حتى العودة التي سجلت خلال الفترة الماضية تم التضليل عليها بأكاذيب لمنع عودة لاجئين ونازحين آخرين. هذه الرؤية الأوروبية الرسمية تتطابق مع مواقف منظمات حقوقية بارزة التي تروج إلى أن توقف المعارك في مناطق عدة لا يعني أن سورية باتت مهيأة لعودة اللاجئين، ما يعني أن هذه المنظمات الأدوات باتت معرقلة لكافة الحلول التي تجترحا الدولة السورية لعودة مواطنيها، بدلاً من أن تكون مساعدة.

حاولت روسيا إقناع الأوروبيين بتمويل عملية إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين، لكن الموقف الأوروبي مثل موقف معظم دول العالم كان رافضاً لبحث إعادة الإعمار قبل إنجاز الحل النهائي، لكن ما هو هذا الحل النهائي؟ على الأغلب إنه أداة الضغط الأوروبية الذي تريد من ورائه فرض الرؤية الاستعمارية القديمة على الدولة السورية.

والى جانب أوروبا، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تصر على عرقلة الجهود السورية في عودة اللاجئين، وتربطه بصياغة الحل النهائي المخطط والمتفق عليه مسبقاً مع الأوروبيين. و للامعان في تلك العرقلة، فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية شديدة تحت مسمى “قيصر”، ونتيجة لهذه العقوبات فقد السوريون ثلث قدرتهم الشرائية حتى لا يكاد يوجد سوري لا يعاني من هذه العقوبات بشكل أو بآخر.

لم يقتصر ما يسمى “قانون قيصر” على الأشخاص والكيانات التابعة للحكومة السورية وحسب، بل أيضا جميع الجهات التي تتعامل معها من مختلف أنحاء العالم وفي مقدمتها الشركات الروسية والإيرانية. ومع دخول هذا القانون في 17 حزيران 2020 حيز التنفيذ دخل العالم في حالة فريدة من العقوبات الشاملة، ربما لم يعرف العالم مثيلاً لها منذ نهاية الحرب الباردة في ثمانينات القرن الماضي.

ومع مرور الأيام، ارتفع منسوب الضغط الأميركي-  الأوروبي المشترك، مقابل نجاحات ميدانية وسياسية واجتماعية وحتى اقتصادية تسجل للدولة السورية، وأمام هذه النجاحات خرجت إلى العلن نغمة “ظروف عودة اللاجئين ليست متوفرة”، وأنه من الضروري احترام المعايير التي وضعتها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والتي تنص على: “يجب أن تتم عودة اللاجئين فقط كنتيجة لقرارهم الحر والمعلن عنه بشكل فردي، على أساس المعرفة ذات الصلة والموثوقة فيما يتعلق بالظروف في سورية بشكل عام وفي مناطق العودة المقصودة بشكل خاص”.

هذا المعيار الذي وضعته المفوضية يحمل في طياته تناقضات صريحة، فمن جهة كيف للدولة السورية أن تضغط على مواطنيها – على سبيل المثال- في ألمانيا أو السويد أو غيرهما من بلدان اللجوء للعودة إلى الوطن؟. ومن جهة ثانية، لو تركت دول اللجوء المواطنين السوريين وسمحت لهم بالعودة لكانت مطارات تلك الدول مليئة بالسوريين الراغبين بالعودة إلى وطنهم. لكن القضية ليست هنا، فالقضية أكبر من ذلك بكثير لأن تلك الدول تستخدم ورقة اللاجئين للضغط على الدولة السورية لتقديم تنازلات عجزت عنها بالقوة العسكرية والإرهاب المصدر إليها. لذلك فإن هذه الأزمة “مفتعلة” كما قال الرئيس بشار الأسد في مؤتمر اللاجئين السابق.

وبدلاً من المساعدة في عودة اللاجئين السوريين، ودعم المؤتمرات الخاصة بذلك، يواصل الجانب الأميركي حث المجتمع الدولي على الاستمرار في دعم اللاجئين السوريين والدول والمجتمعات المضيفة لهم، وعدم تقديم أي مساعدات لأي عملية توطين للاجئين سوريين لا تتوافق مع المعايير التي أرستها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

قابلت روسيا الحملة الأميركية بجهد مضاد، إذ زارت وفود روسية عدة دول مستضيفة للاجئين السوريين، وجرت عدة قمم في عواصم عديدة وبحثت بشكل جدي ملف اللاجئين السوريين، وجرت اتصالات دبلوماسية لإغلاق هذا الملف الإنساني بعيداً عن أي استثمار سياسي من قبل بعض الدول الغربية، التي ساهمت في إطالة معاناة اللاجئين السوريين وحرمانهم من العودة إلى وطنهم من خلال  وضع شروط واختلاق حجج واهية لعرقلة عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم ما يؤكد تسييسهم لهذا الملف الإنساني البحت واستخدامه كورقة في تنفيذ أجنداتهم السياسية.

خاتمة

طيلة السنوات الأخيرة من عمر الحرب الإرهابية على سورية، نجحت روسيا بالدفاع عن الملف السوري في أروقة المسار الأممي للحل، وحشدت لذلك كل الإمكانيات الدبلوماسية والسياسية، ويأتي حرص الدولة الروسية على عقد مؤتمر للاجئين السوريين في السياق ذاته.  في المقابل، تكثف واشنطن جهودها الدبلوماسية لإحكام الخناق على أي مؤتمر للاجئين السوريين، وضمان مقاطعة الدول الأوروبية ومؤسسات الأمم المتحدة أعماله، للحيلولة دون تحقيق موسكو هدفها بـفك الحصار عن دمشق، وتحويل الإنجازات العسكرية إلى قبول سياسي.

إن عودة اللاجئين السوريين وإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها يجب أن تكون من أولويات أي أجندة دولية. ونظراً لزيادة الأعباء على الدول المضيفة للاجئين، من الواجب على المجتمع الدولي أن يضاعف جهوده بهدف تقديم دعم شامل لجميع السوريين الراغبين في العودة إلى بلدهم، بما في ذلك تقديم العون للعائدين، وتقديم المساعدات الدولية، خاصةً أن عودة الأمن والاستقرار إلى مساحات واسعة من أراضي الجمهورية العربية السورية، وكذلك عمليات إعادة إعمار، وتجديد البنية التحتية تمثل خطوة جوهرية لتوفير الظروف الملائمة لعودة اللاجئين والمشردين السوريين إلى مدنهم وقراهم لممارسة حياتهم الطبيعية. كما أن صدور عدد من قرارات العفو وتسوية الأوضاع للمواطنين الذين أجبرتهم ظروف الحرب على مغادرة البلاد بصورة غير قانونية يصب في هذا المجال.

لا شك أن الخسارة الأعظم في الحرب على سورية تتمثل في رحيل أبناء سورية وكوادرها المؤهلة عن وطنهم، ما يتطلب عدم ادخار أي جهود لتأمين عودتهم إلى وطنهم ومشاركتهم في جهود الإعمار.