فيروز.. صوت الأوطان
سلوى عباس
يبدأ نهاري مع بريد الصباح الأخضر صوت السيدة فيروز، هذا الصوت الذي يمنحني فسحةً من صفاء الروح تجعلني أقدر على النهوض بأعباء اليوم التي يخفيها في مجاهيله، هي صوت الصباح الذي يأخذني إلى شمسه فيمنحه دلاله، وأعيش مع سحره ليصبح نداؤه بلسمي ودوائي، يروي ظمئي ويدعوني للحياة، فمنذ أن أدركت هذا الصوت وأنا أصنع من انجذابي إليه انتماءً، أتوارى في بياض غيومه خوفاً من أن أفلت منه، ومع كل أغنية أطير محلّقة في فضاء فردوس الطرب الفسيح، إذ حطّت بصوتها الفيروزي على أول شجرة عشق لتعيد لنا الثقة التي افتقدناها حين تسيّد العابثون الساحة الغنائية وفُرضوا علينا قسراً عبر أجهزة الإذاعة والتلفزيون، ولعلّ السر الذي أبقاها أيقونة للطرب الأصيل هو حبها لفنها وإخلاصها وتفرغها له، لأن الفن لا يحتمل شيئاً آخر معه.
“ما تفسده الأيام تصلحه فيروز”.. عبارة استوقفتني كثيراً، ففي الصباح يأتي صوتها ليلوّنه بالفيروز، هذا الاسم الذي اختاره لها حليم الرومي مخيراً إياها بين فيروز وشهرزاد، إذ ربما كانت تعرف أنها ستصبح الحكاية الأجمل للفن، ولعلّ كلمات الشاعر نزار فرنسيس أجمل ما عبّرت عن ذلك، إذ يقول: “فيروز.. صرتي الرّمز والمعنى/ مهما اختلفنا وعن بعض ضعنا/ صوتك يا ست الكلّ.. بدو يضل/ كل ما اختلفنا.. يعود.. يجمعنا”. ويقول نزار قباني: قصيدتي بصوتها اكتست حلّة أخرى من الشعر.
أما أنسي الحاج فقال: “بعض الأصوات سفينة وبعضها شاطئ وبعضها منارة، وصوت فيروز هو السفينة والشاطئ والمنارة، صوت فيروز هو الشعر والموسيقى والصوت، حتى الموسيقى تغار منه”. وهي كما وصفها محمود درويش: “الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر.. هي التي تجعل الصحراء أصغر.. وتجعل القمر أكبر”.
فيروز.. هذا الصوت الذي اعتاد الناس على سماعه وهي تغني لوطن المحبة ولمحبة الوطن، حتى أصبحت محبتهم لها كمحبتهم لوطنهم التي تنبع كل يوم لتدوم، فنجد فيروز ماثلة في كل السياقات، وكائنة في كل الأوقات، وحاضرة في الضمائر الحيّة، ساكنة للقلوب الدافئة، وجاهزة للحوار مع الآخر، لتصل إلى هدف “المحبة”، فتقول لنا غناءً ولحناً وكلمات اجعلوها نبعاً، مدوها بينكم جسراً، لتكون لكم زيتونة دائمة الخضرة، تستظلون بفيئها وتأكلون من خيراتها المباركة والطيبة.
مع صوت فيروز تبدو اللحظات مثل حلم يغيّب الروح في أخيلة وألوان من سماءات مضاءة بالفرح، يبقينا على حافة الحلم ويبتكر لنا وجبات متنوعة من الحياة، في زمن أحوج ما نكون فيه لمساحة من الحب والأمل، مساحة نعود فيها إلى أنفسنا نستعيد من ذاكرتنا لحظات عبرت وتحولت إلى ماضٍ مازلنا نحتفي به ونهرب إليه من تعب الحياة.. يأتينا صوتها كما الشمس تحيي عشبة داهمها صقيع الليل يسري يخضورها الدافئ إلينا نغمات تناغي مسمعنا، تغني أسرارنا، تغمرنا بموسيقا أغانيها وتمنحنا طاقة من حب نستعين بها على لهاثنا اليومي.. وحدها ابتسامتها التي تطلّ بها على جمهورها تعيد الثقة بكل الأسئلة التي تدور في البال، فقد غنّت فيروز للأوطان، وللحلم، وحب الطبيعة، والمواسم، وشكلت للعالم الظاهرة المتجدّدة أبداً، فكان احتفالنا بميلادها كل عام ميلاداً للبنان الأخضر وللشام المكللة بالغار، وليبقى صوتها سيّد الهوى ودائم الوجد والغوى.