دراساتصحيفة البعث

صور التصعيد الأمريكي تجاه روسيا

محمد نادر العمري

 

في الوقت الذي يبدو أن المهادنة الأمريكية النسبية لجمهورية الصين الشعبية بدأت تتصدر مسار العلاقات بين الطرفين، لاسيما قبل وأثناء وبعد اللقاء الافتراضي الذي حصل بين زعيمي الدولتين، تتصاعد وتيرة التصعيد الأمريكي تجاه روسيا الاتحادية متخذة عدة أساليب خلال الآونة الأخيرة، تمثّلت بداية في دفع واشنطن أعضاء حلف شمال الأطلسي لطرد دبلوماسيين روس ضمن بعثتهم هناك، ثم ما لبثت واشنطن عبر الناتو أن قامت بسلوك استفزازي طال المجال الحيوي لروسيا عبر مناورات عسكرية هي الأكبر من حيث المشاركة ونوعية السلاح المستخدمة، مروراً باتهام روسيا أنها تزعزع الأمن الفضائي بعد تمكن الأخيرة من تفجير مركبة سوفييتية في الفضاء عبر صاروخ روسي نوعي متطور، وصولاً لإعلان مؤسسات رسمية أمريكية متمثّلة بالكونغرس الأمريكي أنها لن تعترف بالرئيس فلاديمير بوتين رئيساً للبلاد في عام 2024.

هذه السلوكيات التصعيدية من قبل واشنطن، وغيرها الكثير مما تلوح بها كملف المعارضة وحقوق الإنسان، تؤكد توجّه الولايات المتحدة الأمريكية لتبني استراتيجية السبعينيات التي هندستها أمريكا حينها لاحتواء الاتحاد السوفييتي من جانب، وخلقت نوعاً من الخلافات بين موسكو وبكين من جانب آخر.

فالسعي الأمريكي لدفع دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في الحلف الأطلسي “الناتو” لتأزيم علاقتها معها، يراد منه قطع أي أفق للتعاون بينها وبين موسكو في كل المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ولعل قضية اللاجئين المحتجزين على الحدود البيلاروسية والبولندية، وأزمة الغاز، خير دليل على ذلك، حيث لا يتجاوز عدد هؤلاء اللاجئين 4 آلاف شخص، واتخذت دول “الشينغن” إجراءات حازمة لمنع نفاذ شخص واحد منهم، بل اتهمت روسيا بتشجيع حليفها البيلاروسي لدفع معظم هؤلاء على الحدود، مع العلم أن لجوء هؤلاء كان بسبب مشاركة دول الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة الأمريكية في خلق الصراعات في الدول التي ينتمون لها، سواء في أفغانستان أو العراق أو سورية أو اليمن، وغيرها من الدول، وخير الأمثلة التي يجوز وجه المقارنة معها أن النظام التركي رغم حصوله على أكثر من /6/ مليارات يورو لإبقاء اللاجئين على أراضيه، كان يستمر بالسماح للمئات منهم بالتسرب نحو أوروبا، ولم نجد أية إجراءات أمنية كما يحصل اليوم تجاه اللاجئين على الحدود البيلاروسية والبولندية، أي أن هذه إحدى صور افتعال الأزمات لاتهام روسيا والضغط عليها.

من الصور الأخرى التي يمكن الإشارة إليها بوضوح مناورة “نسيم البحر” التي تعتبر أضخم مناورة بحرية في البحر الأسود منذ عام 1997، استضافتها القوات البحرية الأمريكية والأوكرانية بمشاركة 32 دولة، شارك فيها نحو 5 آلاف جندي، ونحو 18 فريقاً من فرق القوات الخاصة للدول المشاركة، وحوالي 30 سفينة، و40 طائرة، حيث وجّهت هذه المناورات رسالة لروسيا مفادها أن روسيا عدو رئيسي للولايات المتحدة الأمريكية وحلف “الناتو”، ولكن بالنسبة لساكن الكريملين، لا تخيفه هذه الرسائل، وهو يدرك أن البحر الأسود يشكّل أهمية اقتصادية واستراتيجية لبلاده، لاسيما في مجال الطاقة والتجارة والأمن، والوصول للبحر المتوسط عبر بحر الأزوف، ومن ثم البوسفور والدردنيل.

تسعى  كل من أوكرانيا وتركيا والولايات المتحدة ودول أوروبا وحلف “الناتو” لتبرير مناورتها ووجودها باتهام روسيا بالسعي لتحويل البحر الأسود إلى “بركة خاصة”، لاسيما بعد أن قررت موسكو في نيسان الماضي إغلاق أجزاء من مياه وأجواء البحر أمام حركة السفن والطائرات الأجنبية، وهو ما دفع بريطانيا لإرسال رسالة تهديد أمريكية بوصف ما يحصل إلى حد “توقعات الحرب”، أما أمريكا فتحدث مباشرة بوصف مناورة “نسيم البحر” في البحر الأسود أنها تهدف لردع روسيا، كما أن تعزيز الوجود الأطلسي في أوكرانيا، والتلويح بنصب منصات صواريخ موجّهة ضد روسيا، لهما طابع اقتصادي إلى جانب الطابع الجيواستراتيجي، وهو ما تؤكده صحيفة “فايننشال تايمز” الأمريكية بالإشارة إلى أن معظم صادرات الغاز الروسي تدفقت إلى أوروبا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عبر البنية التحتية الموجودة في خطوط الأنابيب في أوكرانيا، ولكن في العقود الـ 3 الماضية ولأسباب سياسية، سعت شركة “غاز بروم” الحكومية إلى تنويع شبكة الغاز، وتقليل اعتمادها على جارتها أوكرانيا التي استفادت بنحو مليار دولار، ومد خطوط أنابيب “نورد ستريم2” جديدة عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، لذلك تعزز واشنطن تواجدها في أوكرانيا، وشجعت الناتو لغزو ليبيا للحصول على موارد غاز هناك كبديل عن الغاز الروسي، وتضييق الخناق على ألمانيا لعدم استكمال هذا الخط.

واستكمالاً لذلك، وجّهت واشنطن مؤخراً اتهاماً لموسكو بأنها قامت بتفجير مركبة فضاء خارج الكوكب بعد نجاح تجربة صاروخ روسي تولى القيام بهذه المهمة، وهو ما أثار غضب واشنطن، وصعّدت بشكل ملحوظ اتهامها لروسيا بأنها أجرت التجربة في الفضاء، ما يهدد سفن الفضاء الأمريكية العاملة هناك، في الحقيقة هذا الاتهام ذو وجه غير منطقي، وهو بمثابة ذريعة من قبل بعض اللوبيات الأمريكية إما للضغط على الكونغرس لزيادة ميزانية الدفاع والحرب في موازنة 2022 بعد تقليصها عام 2020، أو لإيجاد المبرر لواشنطن لإنعاش ما سمي في السبعينيات حرب النجوم، والذي هدف لنشر صواريخ هجومية أمريكية لاستهداف الخصوم من الفضاء بعد توازن الردع الذي برز مع امتلاك السوفييت في تلك الحقبة صواريخ نووية.

وآخر صور التصعيد تمثّلت بمبادرة مجموعة من داخل الكونغرس بتبني اقتراح يتضمن عدم الاعتراف بالرئيس بوتين رئيساً لروسيا بعد أيار 2024، وهو تاريخ انتهاء ولايته الحالية، وهو سلوك مؤسسي أمريكي دون شك، خاصة أنه صادر من نواب هم أعضاء في حزب الرئيس بايدن الديمقراطي، وهو يؤكد استمرار الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتسعى بكل الإمكانات لفرض إملاءاتها، فهل من الممكن أن يسمح لنا هؤلاء النواب، انطلاقاً من الديمقراطية التي يتغنون بها، أن نسألهم بأي اعتبار يتبنون هذه المبادرة؟ هل يملكون جنسيات روسية ويعبّرون عن حقوقهم الدستورية، أو أن روسيا هي إحدى الولايات الأمريكية، أم أن ديمقراطية شريعة الغاب مازالت سارية عندهم وبفكرهم وسلوكهم، رغم أن أمريكا لم تعد أولاً وفق تقديرات مراكزهم البحثية، ونخبهم الأكاديمية؟.