تقسيم فلسطين.. قرار أعدته الدول الاستعمارية الكبرى
د. معن منيف سليمان
جاء قرار تقسيم فلسطين رقم /181/ الذي صدر في 29 تشرين الثاني عام 1947 في سياق نشاط الحركة الصهيونية والتحالف مع القوى الاستعمارية الكبرى: بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ذلك أن الامبريالية الغربية بقيادة بريطانيا ثم الولايات المتحدة لم تأل جهداً في الدعم المستمر لبناء وتقوية الحركة الصهيونية في مرحلة النشأة والتطور والهجرة والاستيطان قبل قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية، وبعد قيامه حتى الآن.
فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وصدور وعد بلفور عام 1917، وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين، التزمت بريطانيا بالعمل على تحقيق مشروع ما يسمى “الوطن القومي اليهودي”، داعمة النشاط الاستيطاني على نطاق واسع بعد أن أصبحت الوكالة اليهودية معترفاً بها من قبل سلطات الانتداب، فتوسعت عمليات الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وكان الاستيطان يسير خطوة خطوة بطريقة عملية منظّمة ومبرمجة للسيطرة على فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني، فحتى عام 1945، كانت منطقة النقب خالية من المستوطنات الصهيونية، ولكن عندما تأكد للصهاينة أن قضية فلسطين سوف تطرح على الأمم المتحدة، باشر هؤلاء على عجل بالتواطؤ مع سلطات الانتداب بإقامة بعض المستوطنات في المنطقة عام 1946، وخلال مدة قصيرة تمكنوا من إقامة إحدى عشرة مستوطنة، وتم إدخال مئة ألف مهاجر يهودي صهيوني خلال العام نفسه، مع تسهيل عملية انتقال الأملاك العربية لهؤلاء الصهاينة.
ومع رفض العرب لهذه الهجرة، وللانتداب البريطاني معاً، واتخاذهم كل الوسائل الممكنة للدفاع عن كيان فلسطين الذي هو جزء لا يتجزأ من كيان البلاد العربية الأخرى، تيقّن قادة الحركة الصهيونية وحلفاؤهم أن إقامة الوطن القومي المزعوم في فلسطين كلها أمر خطير، وربما عصي على التحقيق، ورأوا أن اقتطاع قسم من فلسطين مهما كانت مساحته هو الطريق الأفضل والأسلم لتحقيق الهدف، ولهذا أبلغ القادة الصهاينة الرئيس الأمريكي ترومان الذي كان متعاطفاً مع اليهود بأنهم على استعداد لقبول التقسيم، فاتخذت جميع الإجراءات التي تحقق مصالح اليهود الصهاينة وبريطانيا وأمريكا.
وبناء على ذلك أحيلت مشكلة فلسطين على هيئة الأمم المتحدة، حيث اجتمعت الجمعية العامة في 28 نيسان عام 1947 لبحث الموضوع، وتقرر تأليف لجنة من مندوبي إحدى عشرة دولة من الدول الصغرى- دول محايدة- وقدمت تقريرها مقترحة إنشاء دولتين مستقلتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية، وهو ما عرف باسم “مشروع الأكثرية”، كما اقترحت مشروعاً آخر عرف باسم “مشروع الأقلية” الذي دعا إلى إنشاء دولة فلسطينية تضم العرب واليهود معاً تنجز خلال ثلاث سنوات، أي قيام دولة ثنائية الجنسية.
وفي أثناء دراسة التقارير، برز دور الولايات المتحدة الأمريكية كطرف رئيس عمل على دفع الأمور باتجاه تقسيم فلسطين، وعندما اجتمعت الجمعية العامة في 26 تشرين الثاني عام 1947 للنظر في مشروع التقسيم، بات من اللازم للحصول على مشروع الأغلبية- وهو مشروع يصب في مصلحة الصهاينة- أن تحصل على موافقة ثلثي أعضاء الجمعية آنذاك، وهكذا بادرت أمريكا ومعها حلفاؤها من دول أوروبا الغربية إلى تأجيل موعد التصويت لتتمكن من ممارسة الضغط على سائر أعضاء الجمعية لتمرير مشروع الأغلبية، وقد لاقت جهودها النجاح وحققت أهداف الصهاينة، وفي هذا الصدد قال وزير الدفاع الأمريكي آنذاك “جيمس فروستل” في مذكراته تعليقاً على هذا الموضوع: “إن الطرق المستخدمة للضغط ولإكراه الأمم الأخرى في نطاق الأمم المتحدة كانت فضيحة”.
وفي يوم 29 تشرين الثاني عام 1947، تم التصويت على مشروع قرار التقسيم بعد مناقشات حادة، وذلك بأغلبية /33/ صوتاً، بينها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، ومعارضة /13/ صوتاً، بينها الدول العربية، وامتناع /10/ أصوات، منها بريطانيا.
كان أهم ما نص عليه قرار التقسيم الذي حمل رقم /181/ تاريخ 29/11/1947، تقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصهاينة، وبينما أعطت الجمعية /56/ بالمئة من مساحة فلسطين “للدولة اليهودية”، أعطت /45/ بالمئة للدولة الفلسطينية، وبقيت القدس وبيت لحم في منطقة خاصة تحت الوصاية الدولية بمساحة تمثّل /5/ بالمئة من مساحة فلسطين، كما قررت الجمعية إقامة وحدة اقتصادية بين الدولتين، وقد أضيفت مناطق جديدة يملكها العرب ويقطنون بها في “الدولة اليهودية” المزعومة، مع إدخال منطقة النقب التي تمثّل نحو نصف مساحة فلسطين إلى هذه الدولة أيضاً، ولم تكن سيطرة اليهود فيها تتجاوز النصف بالمئة.
أما فيما يتعلق بالسكان فقد كان عدد اليهود في فلسطين في ذلك الوقت لا يتجاوز ثلث السكان، ولا تتجاوز مساحة ما يسيطرون عليه /6/ بالمئة من مساحة فلسطين، والملفت في قرار التقسيم أن المنطقة اليهودية كانت تضم /509/ آلاف عربي، بقي ثلثهم في المنطقة اليهودية بعد قيام الكيان الصهيوني، وشُرد الثلثان فيما بعد في مختلف أنحاء العالم، في حين شملت /490/ ألف يهودي فقط، أي أن عدد السكان العرب فيها أكثر من عدد السكان اليهود، ولهذا كان قرار تقسيم فلسطين قراراً جائراً بامتياز، ويبتعد عن المنطق بكل المقاييس، إذ كيف تقوم دولة يهودية أكثرية سكانها من العرب، في حين لم يكن في المنطقة العربية سوى /10/ آلاف من اليهود، وهذا يؤكد أن القرار كان كيفياً ومنسجماً مع مطالب الحركة الصهيونية؟!.
ومنذ إقرار التقسيم اعتمدت سياسة القادة الصهاينة على التوسع، وقد ساعدتهم ظروف التجزئة والضعف والتبعية التي كان يعيشها الوطن العربي، لاسيما بعد إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948، حيث تمكنت العصابات الصهيونية المسلّحة من توسيع الرقعة المخصصة لهم بالتقسيم، فاحتلوا مناطق خارجها وبعض المدن والقرى العربية، وحسّنوا موقعهم، ووسعوا حدود منطقتهم حتى بلغت مساحة الأرض التي أقاموا عليها كيانهم نحو /75/ بالمئة من مساحة فلسطين، وذلك بعد عدوان 1956، وعدوان 1967.
وبالنسبة للموقف العربي فقد أعلنت “الهيئة العربية العليا” رفضها القاطع لمشروع التقسيم، وكذلك استنكره العرب جميعاً في مختلف الأقطار العربية، وجرت معارك دموية بين العرب واليهود الصهاينة في فلسطين إثر إقرار الهيئة العربية العليا باعتبار يوم 29 تشرين الثاني عام 1947 يوم حداد، واستمر الشعب العربي الفلسطيني في المقاطعة والإضراب، واجتمعت حركات التحرر العربية على ضرورة النضال من أجل الاستقلال الكامل وإلغاء التقسيم.
لقد كان للتجزئة والاختلافات السياسية العربية دور سلبي في مقاومة قرار التقسيم والمخطط الامبريالي في خلق الكيان الصهيوني في فلسطين العربية، وهذا ما أدى إلى إلقاء معظم عبء الدفاع عن فلسطين على عاتق الشعب الفلسطيني بشكل رئيسي على الرغم من عدم استعداده للحرب.