أيدي الكيان الإسرائيلي بدعم الانقلاب العسكري في السودان
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
تتحدث آخر المعلومات عن أيدي الكيان الإسرائيلي الخفية في دعم الانقلاب العسكري في السودان الذي وقع في 25 تشرين الأول الماضي، حيث انعقدت اجتماعات سرية مع الجيش السوداني في الأشهر التي سبقت الانقلاب، ولم تصدر حكومة الاحتلال الإسرائيلي أي بيان يدين الانقلاب العسكري، ووفقاً لبعض مراقبي المجتمع المدني، فقد زار وفد من المخابرات الإسرائيلية السودان بعد الانقلاب.،وهذا الأمر يدفع للتساؤل عن المكانة التي احتلها الكيان الإسرائيلي في السياسة الخارجية السودانية منذ ثورة 2019.
كانت العلاقات بين “إسرائيل” والسودان معقدة وتميزت دائماً بالتوترات السياسية الداخلية الخاصة بالسودان، واتسمت العلاقة بين الدولتين بالعداء منذ أن أعلنت الدولة السودانية مقاطعة “إسرائيل” عام 1958 واستضافة الخرطوم مؤتمر جامعة الدول العربية في سياق هزيمة عام 1967. ثم التزمت بالخط الذي حددته جامعة الدول العربية في ذلك الوقت في مواجهة الكيان: “لا سلام ولا اعتراف ولا مفاوضات”.
منذ ذلك الحين، صاغت جميع الحكومات المتعاقبة في السودان، ديمقراطية كانت أم عسكرية، موقفها تجاه “إسرائيل” على غرار موقف غالبية الدول العربية. لكن هذا لم يعكس موقفاً أيديولوجياً تجاه “إسرائيل” بقدر ما يعكس إستراتيجية للحكومة السودانية في خدمة مصالحها السياسية الداخلية، بغرض استغلال المسائل الدينية والعرقية في بلادها. فقد مارس نظام “الإخوان المسلمين”، الذي وصل إلى السلطة عام 1989 بانقلاب عمر البشير، وعلى مدى 30 عاماً، سياسة التمييز الاجتماعي والعرقي التي كان لها عواقب وخيمة على وحدة السودانيين الذين يتميزون بتنوع ثقافي وعرقي ولغوي وديني كبير. وقد اتخذت هذه السياسة شكل خطاب التقسيم بين الأقاليم والأعراق المعتبرة أنها “عربية”، والتي ستكون المركز الثقافي والسياسي والديني للسودان، والمناطق والمجموعات العرقية التي تصفها الحكومة بأنها “أفريقية”، والتي مارست الحكومة حيالها سياسة التخلي، والتمييز الاقتصادي والسياسي، والتدمير من خلال الحرب والإبادة الجماعية لا سيما في جنوب السودان، ثم في مناطق دارفور وجبال النوبة.
أثر رفض الحكومة الاعتراف بـ “إسرائيل” بشكل مباشر على علاقة السودان بالولايات المتحدة، التي تدعم “إسرائيل” دون قيد أو شرط. ومع ذلك، فإن قطع العلاقة مع الولايات المتحدة، التي تعد أحد اللاعبين المركزيين في الجغرافيا السياسية العالمية، هو خيار سياسي قوي للغاية اتخذته حكومة البشير دون موافقة الشعب، والذي كان له عواقب ثقيلة على السودانيين. وبقدر ما ظهر السودان على هذا النحو كعدو لـ “إسرائيل” وبالتالي للولايات المتحدة، ووضعه منذ عام 1993 على القائمة الأمريكية للدول الداعمة لـ “الإرهاب الدولي”، فقد قطعت الدولة السودانية الطريق عن أي فرصة لتلقي الدعم الجيو-سياسي والمالي من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، وهكذا كان على الشعب السوداني أن يواجه لمدة 30 عاماً أزمة اقتصادية خانقة تفاقمت بسبب الحروب.
معارضة سودانية لا تفلت من مصيدة الاستغلال
لقد خلقت هذه الوسيلة جدلاً كبيراً بين الشعب السوداني المنقسم حول القضية الفلسطينية، فقد كانت بعض الأطراف تدافع عن نفس خط الحكومة بينما يعارضها البعض الآخر لصالح تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”. وخلال تحركات 2018، شوهد متظاهرون يلوحون باللافتات ويرمون الشعارات في مواكب تطالب بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، وكان هناك بالمقابل احتجاجات منتظمة ضد التطبيع.
ومن بين المجموعات التي تدافع عن تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، هناك أحزاب يسارية معينة، مثل “الحركة من أجل قوة ديمقراطية جديدة”، و”الكونغرس السوداني”، وكذلك حركات المعارضة المسلحة التي تأتي على وجه التحديد من “المناطق المهمشة” من السودان. على سبيل المثال، فتحت “حركة تحرير السودان” بقيادة عبد الواحد النور مكتبها في تل أبيب في آذار 2008 لإظهار معارضة رمزية لـ “نظام” عمر البشير، في ذلك الوقت، أثار هذا القرار جدلاً كبيراً.
ومرة أخرى تفسر مواقف هذه الجماعات والأحزاب بعوامل داخلية بحتة في السودان، فهي رد فعل على استغلال “نظام” البشير للقضية الفلسطينية كوسيلة لصالح الهيمنة العربية (بحسب الحركات المسلحة) ولصالح هيمنة الإسلاميين (بحسب بعض الأحزاب اليسارية)، لكن يمكن رؤية أن المعارضة نفسها لا تفلت من فخ الاستغلال هذا في خدمة مصالحها السياسية الشخصية.
الدبلوماسية السرية بين “إسرائيل” والبرهان
بعد عام من تشكيل الحكومة الانتقالية، في شباط2020، التقى البرهان، قائد الجيش السوداني رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في العاصمة الأوغندية كمبالا متجاوزا بذلك صلاحياته، ومتجاهلاً إبلاغ رئيس الوزراء ورئيس الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك بالاجتماع. هذا الأخير علم بها فقط من خلال الصحف الإسرائيلية! وأثارت هذه الواقعة جدلاً بين الشعب السوداني وحتى داخل الحكومة الانتقالية. وقد أدان الاجتماع العديد من أعضاء الأحزاب المدنية في الحكومة الانتقالية، مثل “الحزب الشيوعي”، و”حزب الأمة”، و”تجمع المهنيين السودانيين”، المنظمة المدنية الرئيسية التي انبثقت من الثورة السودانية لعام 2019، جميعهم اعتبروا اللقاء مخالفة دستورية. وقال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك: “نحن لسنا ضد تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، لكن يجب أن يتم ذلك في إطار مؤسسي، لأنه لا يمكن أن يلتقي البرهان بأي مسؤول أجنبي إلا بحضور رئيس الوزراء.”
وقع السودان اتفاقات الإبراهيمي مع “إسرائيل” في أيلول2020 برعاية الولايات المتحدة، وقد سمح ذلك برفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول “الإرهابية” وبالتالي “السماح” مرة أخرى بالدخول في علاقات اقتصادية معها. لكن تم التوقيع على هذه الاتفاقيات على خلفية توتر داخلي كبير في الحكومة الانتقالية، حيث كان الجانب العسكري في الحكومة عازماً على دفع استئناف العلاقات مع “إسرائيل”، في حين كان الجزء المدني من الحكومة منقسماً للغاية بشأن هذه القضية.
منذ ذلك الوقت، واصل البرهان تعزيز العلاقات مع “إسرائيل”، وعهد بهذه المهمة إلى بعض الشخصيات السياسية التي تنتمي مثله إلى النظام القديم. وزاروا “إسرائيل” في عدة مناسبات سراً دون علم وزير الخارجية أو رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. أما بالنسبة للوفود الإسرائيلية، فقد جاءت لزيارة السودان بشكل سري والتقت قائد الجيش، البرهان.
لماذا يحاول البرهان الاقتراب من “إسرائيل”؟
واقع الأمر، يبحث البرهان عن حلفاء استراتيجيين للجيش السوداني، فمنذ تشكيل الحكومة الانتقالية، دعمت الولايات المتحدة الجانب المدني من الحكومة، مستبعدة الجيش من الساحة السياسية حيث نظم البرهان اجتماعات مع “إسرائيل” بعد زيارة رئيس الوزراء حمدوك للولايات المتحدة بعد تعيينه، لذلك أراد تجاوز التقارب بين الولايات المتحدة والجزء المدني من الحكومة.
في 8 تشرين الأول 2021، وقبل أقل من ثلاثة أسابيع من حدوث الانقلاب، بحسب صحيفة “المونيتور” الأمريكية التحليلية، قام وفد من كبار أعضاء الأجهزة الأمنية بقيادة محمد حمدان دقلو (المعروف أيضاً باسم حميدتي) بالذهاب سراً إلى “إسرائيل” لبحث العلاقات الثنائية بين البلدين لمدة يومين. وفي 13 تشرين الأول، أعلن وزير الخارجية السوداني علناً استبعاده من هذه اللقاءات التي تُعقد خارج الإطار الدبلوماسي الرسمي، وأنه لم يؤيدها. تكشف هذه الحلقة الأخيرة مرة أخرى أن العلاقات مع الكيان الإسرائيلي كانت أحد مواضيع الاشتباكات العديدة بين الجانبين المدني والعسكري في الحكومة الانتقالية.
وبالتالي، يعتقد بعض مراقبي المجتمع المدني السوداني أنه منذ بداية عمل الحكومة الانتقالية، كان البرهان يبحث عن حلفاء جدد لأنه كان يخطط بالفعل لتنفيذ انقلاب عسكري ويريد ضمان أقصى قدر من الدعم. الاستنتاج المنطقي لهذا التحليل هو القول إنه إذا كان البرهان قادراً على تنفيذ انقلابه في 25 تشرين الأول، فذلك لأنه وجد ضمانات بالدعم من دول معينة، وخاصة من “إسرائيل”.
ولكن لماذا تهتم “إسرائيل” بالسودان إلى هذه الدرجة؟. قبل كل شيء، هي بحاجة إلى حلفاء دبلوماسيين في المنطقة بهدف كسر “الكتلة العربية ” التي كانت معادية لها في الماضي. من ناحية أخرى، سعت “إسرائيل” منذ سنوات إلى إقامة علاقة مع السودان حتى تتمكن من طرد العديد من اللاجئين السودانيين الذين يعيشون على أراضيها، والذين يبدو أن وجودهم يزعج السلطات الإسرائيلية بشكل كبير.
وبالتالي فإن مسألة العلاقات مع “إسرائيل” هي في صميم الاستراتيجيات الجيوسياسية التي حدث فيها انقلاب 25 تشرين الأول في السودان. وعلى نطاق أوسع، هي في قلب السياسة الخارجية والداخلية للسودان منذ عقود. لذلك يدعو المحللون السودانيون إلى ضرورة التنبه والتيقظ لتطور العلاقات مع “إسرائيل” لأن مثل هذا التطور سيكون له تأثير سلبي كبير على مستقبل الثورة والتحول الديمقراطي في السودان.