الذات الكاتبة والذات الشخصية
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
تتعدّد حالات الكتابة وأشكالها، فقد تكون تفريغاً للضغط النفسي والأوجاع التي يعيشها الكاتب، وربما تكون حالة من حالات تحقيق الذات، وقد تكون شاهدة عصر!! لكن التعريف – ربما الأكثر توافقاً مع كل ما يمكن أن يُطرح حول الكتابة- هو أنها فعل الحياة الأكثر كثافة، لكنها عندما تتزامن مع ظرف تاريخي يعيشه المرء، فإنَّ هذه الكتابة ستصبح ناطقة بالحالة والظروف التي يعيشها الكاتب، ففي المرحلة الأولى تكون الكتابة تلقائية، وفي مرحلة لاحقة عندما يبدأ الوعي متجاوراً مع الكتابة، تبدأ الأسئلة التي تخصّ الحياة اليومية، ومع النضج والوعي أكثر بالكتابة قد تصل إلى الأسئلة الخالدة.. الأسئلة الوجودية. وهنا يخطر السؤال: هل دور الكتابة أن تعكس الواقع وتصوّره؟ أم أنها تسعى لما هو أفضل؟ لكن حتى وهي تسعى لما هو أفضل كيف لها أن تكون بناء لهذا الواقع المرتجى، بمعنى أننا لا نستطيع التعبير بواقعية مباشرة عن الواقع، ودور الكتابة أن تنظر إلى التفاصيل والخفايا الموجودة في الواقع وإلى ما يحرّكه، وأن تنظر إليه بمجمله، فالكتابة فعل مقرون بالمسؤولية بالدرجة الأولى، وكل كلمة تصدر عنّا يجب أن نتمثلها فكراً وسلوكاً لتكون تعبيراً حقيقياً عن مكنوناتنا وأفكارنا، فالذات الكاتبة هي نفسها الذات الشخصية، يجب أن تتحدا في رؤية واحدة، وهنا لا أوافق من يبرر مسألة الاختلاف بينهما، لأن فعل الكتابة ليس إلا ترجمة لما يدور في خلد الذات الشخصية من أفكار ورؤى وقيم، وإذا لم نتمثلها بسلوكنا وممارساتنا، فإننا نعاني من حالة فصامية تعكس الشرخ الذي نعانيه على صعيد الحياة ككل، فإن لم تكن كتابتنا مرآة صادقة لذواتنا فإن كل ما نسطره على الورق يحتاج منّا لوقفة نراجع من خلالها أنفسنا ونتاجنا، لتعكس كتابتنا صدقنا وتوافقنا مع واقعنا وما نفكر ونعيش.
ومع نضج التجربة –سواء الكتابية أو الحياتية- تتناقص أسئلتنا ليس بسبب عجزنا عن توليدها، لكننا نخاف منها بسبب إدراكنا لمخاطرها، ففي بداية حياتنا نكون أجرأ ليس في طرح الأسئلة وحسب، بل في مواقفنا كلها، وهذا ما يختلف عبر تجربتنا ككل، لكن ما يجعل الأمور أكثر يسراً هو تصالحنا مع أنفسنا ومع الآخر بأن نحبه ولا نرى عيوبه، وبهذه البراءة الطفولية نخرج إلى العالم كل صباح ونبقى في نقائنا حتى المساء، فالحياة لا تستحق أن نتصارع من أجلها، إذ لكل منا وجهه وتعبيره، ولا أحد منا يستطيع أن يصادر ملامح الآخر لأن هذا التنوع بين ملامحنا هو الذي ينتج الحياة، وأمنياتنا أن تكون العلاقات على الساحة الأدبية هكذا لا يلغي أحد الآخر، ولا يقف في وجهه، وأن يرتفع كل منا بالآخر الذي يكمّله وهذا مهم خاصة إذا كنا نتطلع إلى بيئة ثقافية صحيحة وخالية من العقد.
وفي المقارنة بين تجربتينا الكتابية والحياتية ومدى تطابقهما تبقى تجربتنا الكتابية أكثر حرية بما لا يقاس من التجربة الحياتية، وإن كانت الأولى تستمد مادتها من الثانية، فالحياة ضيقة بالمقارنة مع ساعة الكتابة التي لا يحد من آفاقها شيء، والخيال يلعب دوراً محدوداً في الحياة، بينما ساحته في الكتابة مفتوحة الآفاق، وربما هذا ما يجعلنا نسعى إلى تعويض ما ينتاب حياتنا من نقصان بالذهاب إلى الكتابة، مما يمنحها بعداً أعمق، وفضاء أرحب، وبالتالي لجوئنا إلى الكلمة يعني لجوئنا للفعل، وقد يكون لمحاولة الفعل إن كانت الكلمة قادرة على الفعل أو ليست قادرة، الحكم فيها يقع على عاتق المتلقي، لكن تبقى الكتابة بحد ذاتها فعل حب جميل ومؤثر.