مجلة البعث الأسبوعية

محمد قجة ذاكرة ثقافية وموسوعة تراثية

البعث الأسبوعية-غالية خوجة

كيف للتراث أن يستمر على المنصات وكأنه يحدث الآن؟ وكيف لإنسان مثقف أن يبدع في البعد الآخر من الوظيفة التوصيلية للغة ضمن نسق دلالي ونحوي ونَصّي وتأريخي وبحثي؟

تتنوع الإجابات، لكنها تلتقي قي شخصية الباحث الموسوعي الأديب محمد قجة كعلامة من العلامات الثقافية في مدينة حلب، وهو أحد القامات الأصيلة التي عاصرت أهم القامات العلمية والثقافية والفنية في مدينة حلب وخارجها، وفي الوطن العربي والعالم الإنساني عموماً.

يتمتع قجة على الصعيد الشخصي بالطيبة، وهو موسوعة من الكتب، وباحث في الحضارات والتراث العربي والإسلامي، وذاكرته المثقفة تروي لك العديد من الأحداث والمشاهد التأريخية والحياتية والفنية والثقافية، ولمن يحضر محاضراته التي تجاوز عددها 500 محاضرة في أربعين بلداً أولها سورية ثم الوطن العربي والعالم، أن يكتشف كيف تشتبك نصوص ذاكرته بنصوص الذاكرة التأريخية والجمعية والانتماء والهوية لتضيء القضايا الفكرية والآثارية والتراثية والأدبية والفنية والتأريخية، ثم، لتتسع بعيداً في الماضي، وتصل إلى محطة الحاضر، لتنطلق بمخزونها إلى المستقبل.

آراء اكتشافية

وهذا ما جسده أثناء إدارته لاحتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2006، والتي اعتبرها المختصون في كافة أرجاء العالم العربي نموذجاً ناجحاً من الممكن اعتماده في احتفاليات العواصم الثقافية الأخرى، وهذا ما صرح به د.عبد العزيز التويجري رئيس المنظمة الإسلامية.

وتقديراً لتميزه، تم تكريمه عام 2008 في ندوة على مدى يومين، ثم صدرت أوراق المشاركين في كتاب شارك فيه العديد من الأدباء والكتّاب والأكاديميين والإعلاميين والمثقفين والدبلوماسيين والبحاثة والموسيقيين العرب والأجانب، منهم د.فايز الداية، د.علي القيّم، أحمد بدر الدين حسون، د.محمود عكام، المطران يوحنا إبراهيم، د.لويس خابيير رويث، محمود درويش، سليمان العيسى، سلمى الحفار الكزبري، محمد سعيد الرميثي، حصة الصباح، محمد برادة، كارلوس فيريري، جورج غالاوي، عبد الرؤوق الريدي، مسعود ضاهر، إيفلين إيرلي، كارلوس فارونا نارفيون، محمد علي آذر شبّ، عطا الله حنا، وجيه فانوس، مريم بيجوي، يوسف القعيد، عائشة الدباغ، سليمان العسكري، فيصل الحفيان، عبد القادر الإدريسي، د.المنجي بوسنينة، سناء البياتي، محمود قبلان، إسماعيل سراج الدين، خالد المالك.

مفاجآت العاصمة

وأخبرنا عن مفاجآت هذه الاحتفالية، بأنها كثيرة، ولعل أبرزها النجاح الساحق لاحتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية، وعدد المشاركين الذين جاؤوا من خارج سورية، ومنهم باحثون من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيران وتركيا وماليزيا وأذربيجان ومصر والمغرب والجزائر وتونس وموريتانيا والعراق ولبنان والأردن والسعودية وقطر والكويت والإمارات وعمان وفلسطين والسودان، إلى جانب الباحثين السوريين.

البيت متحف ثقافي فني

وجاء هذا الحوار المختلف للبعث، بعد زيارتي لبيت الباحث محمد قجة في بيته ضمن مجال النشاط الاجتماعي لاتحاد الكتّاب العرب مع أعضاء هيئة فرع حلب لاتحاد الكتاب العرب ممثلاً بالدكتور فاروق أسليم عضو المكتب التنفيذي.

وهنا، وحالما تدخل تجد الطمأنينة منتشرة بين أرجائه وهي تصافح الشمس الشفيفة المطلة من النوافذ، ومن قلوب العائلة وهي تستضيفك بترحاب تشعر به الموجودات سواء كانت أعمالاً فنية أو ديكوراً مناسباً أو كتباً، وما إن تنظر إليها حتى تشعر بأنها جميعها تقترب منك لتوشوشك عن سيرته التي بدأت يوم 17 كانون الأول عام 1939، حين فرحت به أسرته المتجذرة في حلب منذ 600 سنة في الأحياء القديمة، وكان منها جده الخامس محمد الذي قاد انتفاضة اجتماعية ضد المظالم في عهد خورشيد باشا العثماني عام 1820 أدت إلى قتله وملاحقة أسرته.

وهذا البيت، استضاف الكثير من الشخصيات الثقافية والفنية والموسيقية، مثلاً، من سوريا صباح فخري، أدونيس، صبري مدلل، نبيل سليمان، فاتح المدرس، سعد يكن، وليد إخلاصي، سامي برهان، محمد أبو معتوق، ومن مصر جمال الغيطاني، يوسف زيدان، حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، جابر عصفور، من لبنان نقولا زيادة، هنري زغيب، طلال حيدر، من إسبانيا كارلوس فارونا و10 آخرين، من بريطانيا سليم الحسني، من تونس الطاهر الهمامي، زهية جويرو، محمد الطيب.

الأعمال الفنية ضرورة

وأول ما لفتتني الأعمال الفنية التي تزين الجدران والزوايا بين لوحات تشكيلية ومجسمات فنية ونحتية، منها “بورتريه” لشخصه الكريم، بريشة الفنان سعد يكن، ومنها لوحات للعديد من الفنانين الحلبية مثل شريف محرم، سامي برهان، إضافة إلى العديد من المجسمات والمنحوتات المختلفة، منها مجسم لربة الينبوع وهي تعيدنا إلى مرحلة زمنية من تأريخ سوريتنا الحبيبة، قبل الميلاد، بفستانها الحجري المائي المزين بالأسماك، وبجرتها التي تسكب الماء كرمز للحياة، لتخبرنا عن مملكة ماري وحضارتها وفنونها الجدارية والنحتية.

وعن هذا البعد التشكيلي والنحتي، قال قجة: الأعمال الفنية تمنحنا حياة متجددة، ووجودها في البيت ضرورة فنية ونفسية واجتماعية وثقافية، تماماً كالمكتبة، وكلما نظرتُ في هذه اللوحات، وأنا أفكر، أراها تأخذني لعوالمها المرسومة ودلالاتها غير المرسومة، فأرتاح وأنا أغوص في نصوصها وأقوالها، وأحياناً، في صمتها الذي تنعكس عليها أشعة الشمس مثل الآن، أو أشعة النفس وهي تشرد حيناً، وتعود بالجديد حيناً.

لكن، هل تقتني الأعمال الفنية أم أنها مهداة؟ أخبرنا: أكثر اللوحات الفنية مشتراة، وبعضها هدايا من الفنانين، واسترسل: المنحوتات والمجسمات تحكي روايات أخرى، ومن الممكن أن نتخيل مشاهدها وأحداثها التأريخية، والاجتماعية، وتحولاتها القديمة والمعاصرة، وثباتها عبْر الحقب والعصور، لأن الماضي انتماء وهوية أيضاً، وتطويره حالة موضوعية، والإضافة إليه حالة مستقبلية، لذلك، ندرك أن التراث مجموع ما وصلنا من خبرات وحضارات قديمة تأخذ شكلها لدى أمة من الأمم ولا تنفصل عن الأمم الأخرى، وهو مؤلف من محورين: تراث مادي يضم الحجارة والعمارة، وتراث غير مادي – معنوي يضم التراث الفكري الشامل من كتب وفنون وأغان وعادات وتقاليد وأحزان وأفراح ومدافن وثقافة طعام وأهازيج وأمثال وقصائد وفلكلور ونكات وصناعات حرفية تقليدية وتراثية وحياة اجتماعية واقتصادية وسياسية.

الحداثة تراث

ورأى أن أهمية الحداثة للتراث تكمن في توظيفها من أجل الاحتفاظ بتراثنا وتطوير حاضرنا، بمختلف الوسائل الممكنة العقلية والتكنولوجية، ومنها الدراسات التحليلية للتراث العلمي، لأننا درسنا التراث الديني والأدبي أكثر بكثير من التراث العلمي، سواء في العلوم البحتة، أو العلوم التطبيقية، لعلنا نضيء ما يناقض مقولة استشراقية خبيثة رددها الكثيرون ومنهم ماسينيون، وللأسف، يرددها الكثير من العرب أيضاً:”العرب أمة صوتية ليس لها دور في المجال العلمي”! بينما تراثنا يثبت أننا أمة علمية بما نمتلكه من تراث في الفلك والطب والهندسة والزراعة وهندسة الري وأساليبه التي ما تزال شاهدة على كل هذه الحضارة العلمية التي اهتمت بالوقت والشمس والنجوم والعقل والروح والإنسان، كونها حضارة تستوعب الآخر، وتتحاور معه ضمن نسق التتمازج الحضاري الإيجابي فلا تهتم بصراع الحضارات، بل بتكامل الحضارات.

ذاكرة موسوعية

أمّا كيف لذاكرته أن تسرد وتحكي لك عن التأريخ بأحداثه وتفاصيله، وعن التراث المتنوع المختلف، وبدقة موثوقة؟ أجابنا: الحفظ والذاكرة نتيجة المرحلة المبكرة في حفظ القرآن الكريم، كوني كنت في الثالثة وذهبت للشيخ، فحفظت القرآن الكريم قبل دخولي إلى المرحلة الابتدائية، إضافة إلى الكتابة والحساب الشفاهي وجدول الضرب، كما أنني أحفظ أكثر من 30000 بيت شعري.

وتابع: والمطالعة المستمرة يومياً، تساعد الإنسان على الاحتفاظ بخزائن ذاكرته، ويضيف إليها، ويجدد فيها، تماماً، كما الكتب المنسقة في المكتبة.

وأكمل: ولمئات المحاضرات دورها، وكذلك، اللقاءات الإذاعية والتلفازية والندوات، والنشاط الفكري والثقافي العام، والمهم في الأمر هو الوقت وتنظيمه في المفيد.

متحف المتنبي مؤجل

وأكد لنا أن بيت المتنبي الذي في حلب هو حقيقة، ولقد أشار إليها كمال الدين بن العديم في كتابه بغية الطلب في حلب، وهو خلف خان خاير بك، وأكدت ذلك لجنة على مستوى جامعة حلب ووزارة الثقافة السورية، وهو جزء من المدرسة البهائية – بهاء الدين، المدرسة الصلاحية سابقاً، وكان سيتحول إلى متحف قبل الأزمة.

وأضاف: لكل أمة شخصية، ومنها محافظتها على تراثها بشكل عام، وضمن هذا التراث شخصيات وآثار تأريخية علمية وأدبية وسياسية واقتصادية وفكرية ومعمارية، والمتنبي إحدى هذه الشخصيات، وهذا ما تدركه دول العالم، لذلك، نلاحظ كيف تهتم بريطانيا بشكسبير وتفخر به كما تفخر مصر بأهراماتها، والصين بأبنيتها الخشبية.

وأردف: هناك العديد من الكتب التي تحدثت عن حلب منها الدر المنتخب في تكملة تأريخ حلب لابن الخطيب الناصرية، إعلام النبلاء في تأريخ حلب الشهباء للشيخ محمد راغب الطباخ، نهر الذهب في تأريخ حلب للشيخ كامل الغزي، ومعجم البلدان لياقوت الحموي، كنوز الذهب في تأريخ حلب لسبط بن العجمي، الدر المنتخب في تأريخ مملكة حلب لابن الشحنة، در الحبب في تأريخ حلب لابن الحنبلي، إضافة للعديد من الأجانب أمثال الأخوين راسل وكتابهما تأريخ حلب الطبيعي.

أين تأريخ العلوم؟

وتساءل: لماذا لا تدرس مناهجنا تأريخ علومنا العربية والإسلامية؟ مثلاً، أوليس من المناسب حين تدرس الفيزياء أن يدرس معها الحسن بن الهيثم؟ وأن تصاحب دراسة التشريح دراسة لابن سينا؟

مكتبة منزلية عريقة

تحتوي مكتبته المنزلية 13000 عنواناً من الكتب المختلفة المتنوعة، وهي مكتبة قديمة كما يقول عنها محمد قجة، مضيفاً: في هذه المكتبة مخطوطات ومطبوعات قديمة منذ مئات السنين، مثل نسخة من القرآن الكريم عمرها 700 سنة، وديوان المتنبي بخط اليد، ومخطوطات لبعض كتب ابن عربي الفيلسوف الشاعر المتصوف الذي أعتبره رائد الحوار، ولقد حققت لابن عربي الديوان الكبير.

وأضاف: نشأت في بيت فيه مكتبة، ووالدي كان متعلماً، ويوجهني لقراءة الكتب، ويباريني في الشعر بلعبة أول البيت وآخر البيت، ثم تابعت تعليمي، وحصلت على مؤهل تربوي، وإجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، وتابعت في جامعة الجزائر دراسات عليا في تأريخ الأندلس وبلاد الشام، ثم تابعت مسيرتي العملية كعضو في كثير من المجالس والجمعيات ومنها رئيس مجلس إدارة جمعية العاديات السورية، وعضو في اللجان والاتحادات ومنها اتحاد الكتاب العرب- جمعية البحوث والدراسات.

كتبي متنوعة الثيمات

وعن مؤلفاته أخبرنا بأنه أصدر 20 كتاباً، وساهم في أكثر من 20 كتاباً مشتركاً، منها محطات أندلسية، المدن العربية الكوسموبوليتية، أعلام خالدون، دمشق في عيون الشعراء، أطلس التأريخ الحديث، أطلس التأريخ القديم، أطلس العصر النبوي، إضافة لسلسلة من المكتبة التأريخية للفتيان والفتيات، حلب على صفحات التأريخ- نص مسرحي، التراث الثقافي غير المادي، حلب مطلع القرن العشرين، جلال الدين الرومي، الإسلام وحوار الحضارات، أعلام أندلسيون.

وحالياً؟

أجاب: لدي كتاب جديد “حلب في كتاباتي وقصائدي- دار الشرق/بيروت، وكتاب قيد الإعداد والطبع في هولندا “موسوعة حلب في عيون الشعراء”.

الجامع الأموي في كتاب توثيقي

أمّا إصداره الذي أهدانا منه نسخة فهو كتابً مشترك مع المهندس مروان حمزة – جامعة إيبلا الخاصة، والمهندس تميم قاسمو- جمعية العاديات بحلب، بعنوان “الجامع الأموي الكبير بحلب-توثيق أعمال لجنة الصيانة والترميم” الذي ساهم فيه محمد قجة بالقسم التأريخي متحدثاً عن المراحل الأركيولوجية المتنوعة لأهمية هذه المدينة المعتّقة بالتأريخ والحياة والفنون والمدنية والحضارة.

ويتألف هذا الكتاب القيّم المتضمن لصور وثائقية ملونة 5 أبواب، أولها (عرض تأريخي) ويبدأ منذ القرن الأول الهجري، وثانيها (من الإنجاز إلى الترميم) مبتدئاً بالقرار الجمهوري بتشكيل لجنة الإنجاز وصولاً إلى أعمال اللجنة، وثالثها (وصف معماري وعرض لأعمال الترميم والتأهيل)، بدءً من أبواب الجامع وانتهاءً بأعمال البنية التحتية، ورابعها (المكتبة الوقفية) تأريخاً وأقساماً وإنجازات ومشاريع، وخامسها (اللقى والمكتشفات)، وتأتي خاتمة الكتاب بعنوان “الجامع بريشة فناني حلب” لكل من الفنانبن طاهر بني، صلاح خالدي، برهان عيسى، منذر شرابة.

والقارئ للوحات يستشفّ حالة من الأصالة في المفردة اللونية ومكانيتها الواقعية، ودلالاتها الروحانية، وعناصرها المرتفعة بين تدرجات الأزرق السماوي، والبني الخشبي، وتحولات اللحظة المستوحاة من الجامع الأموي المحدق بصفاء في مراياه ومرايا الآخرين وفصول السماء.

هدف يومي استراتيجي

الكتاب الأيقونة الذي توزعت أبوابه إلى 100 عنوان، يرحل بنا، وبأسلوب حكائي مشوق ومفيد، وبإخراج فني جميل وخطوط ملونة، إلى عالم الجوامع الأولى ووظائفها الدينية والحياتية والاقتصادية والإدارية والعلمية والفكرية والاجتماعية والتربوية والأكاديمية والفلسفية والرياضية وعلوم اللغة العربية وغيرها، والتي كان أولها مسجد المدينة المنورة بعد الهجرة، وكيف تحولت مطالب الحياة في المدن القديمة، مثل دمشق وحلب والإسكندرية، وكيفية اختيار مكان بناء المسجد في مركز حيوي نشط، غالباً، ما كان يتوسط المدن.

وبتوثيقات تفصيلية يسرد لنا رحلة الجامع الأموي الكبير بحلب منذ القرن الهجري الأول، وكيف مر بمراحل تأريخية وسياسية وعمرانية مختلفة، وعانى من آلام الكوارث الطبيعية والحروب، وصولاً إلى مرحلة الترميم تخطيطاً وبناءً وأعمالاً فنية وخطية وتشكيلات وزخرفات وتكوينات فنية.