مجلة البعث الأسبوعية

البعد الهوياتي في الحرب الروسية الأوكرانية.. رؤيةٌ أنثروبولوجيةٌ لفهمٍ أعمق لثقافة الحرب

د. سومر صالح – دكتوراه في الفكر السياسي

 

أصبح مفهوم “الثقافة الاستراتيجية” ذا أهميةٍ متزايدةٍ في مجال الدراسات الاستراتيجية.

يوضح المفهوم أهمية الثقافة لفهم القضايا الاستراتيجية، ضمن مقاربات (الحرب والثقافة). ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية (العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، شباط 2022)، برزت أهمية هذه المقاربة لفهم مسببات هذه الحرب التي تعكس التوجه الجيو سياسيّ والثقافيّ للأمة الروسية، ولتطور الفضاء ما بعد السوفيتيّ في أوروبا الشرقية، سيما التيار الملتزم بالمثل الأعلى لعالمٍ أرثوذكسيّ شرقيّ سلافيّ مُشتركٍ بقيادة روسيا.

ولما كانت أوكرانيا تُعدّ الجزء الثالث المكون لـ “الثقافة الروسية” (المؤلفة من روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا)، والتي تقوم على فكرة “الأخوة الصغار – أوكرانيا بيلاروسيا”، و”الأم كييف“، وهيّ مجازاتٌ قديمةٌ متأصلةٌ في الثقافة الروسية، فلابدّ بالضرورة من الحفاظ عليها من خطر التغريب النيوليبرالي، الذي يُهدد الهوية الكليّة (السلافية الأرثوذكسية)، إذ يوجد اعتقادٌ راسخٌ لدى النخب الروسية أنّ “القيم الروسية” تتفوق على “القيم الأوروبية” التي تدهورت بسبب النيوليبرالية السياسية، والمثلية الجنسية، وتراجع المعتقدات الدينية، وتقويض فكرة سيادة الدولة القومية، ولذلك يُعدّ التوجه الأوكراني نحو الاتحاد الأوروبي (2014) عاملاً مهدداً للقيم الروسية، ولوحدة الأمة الروسية، وهويتها، وحتى معتقداتها الدينية، وتكرسّت هذه المخاوف الروسية على الهوية الجامعة والوحدة السلافية الأرثوذكسية، بعد الانشقاق الكنسيّ الأوكرانّي (2018)، الذي أدى إلى انفصال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن بطريركية موسكو، الأمر يمكن تشبيهه بالانشقاق العظيم الذي حدث في عام 1054 م، وأتى كلّ ذلك في ظلّ ارتفاع مستويات الدعم الأوروبي لأوكرانيا لتحويل هويتها بعيدًا عن روسيا، ونحو الاتحاد الأوروبي، ضمن استراتيجية الاتحاد الأوروبي لإعادة تعريف “من هو الأوروبي؟”، لتخفيف حدّة الكراهية بين غرب ووسط وشرق أوروبا، إذ يُنظر للدعم الأوروبي للهوية الأوروبية لأوكرانيا في إطار تهدئة المخاوف لبولندا ودول شرق أوروبا التي لم تندمج كلياً في هذه الهوية، وتخشى من “عقدة الدونية” ومشاعر الكراهية الأوروبية الغربية، الذي يهدد مفهوم “أوروبا”، ويزيد من خط الصدع الديموغرافيّ والاقتصاديّ والثقافيّ الذي يمر عبر الغرب الليبرالي.

ينطلق الفضاء ما بعد السوفيتيّ لروسيا من رؤية “روما الثالثة”، وهو مفهومٌ لاهوتيٌّ وسياسيّ تمت صياغته في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في روسيا القيصرية، ويُعدّ الكاتب إيفان إيلين، المولود عام 1883، المنظر الرئيس للرؤية الإمبراطورية المعاصرة، ومنه كان التنظير لفكرة “العالم الروسيّ”، في منتصف القرن السادس عشر، حين كتب الراهب فيلوفي عن موسكو باعتبارها “روما الثالثة”، لكن المقاربة لم تتحول معه إلى عقيدة، إلّا مع حكم إيفان الرابع، أمير موسكو (1533 – 1584)، الذي حوّل المفهوم لأيديولوجيةٍ (دينيةٍ) وجهّت سياسته، في كلّ من الشؤون الداخلية والشؤون الخارجية..

يُعدّ المفهوم ظاهرةً تاريخيةً وفكرةً وطنيةً، تتناغم مع مزاج المجتمع الروسيّ، الذي جعل منها مؤثراً على الهيكل الداخليّ للدولة وسياستها الخارجية، مما يسمح لنا بالقول إنّ مفهوم روسيا لـ “روما الثالثة” يمكن اعتباره عقيدةً جيوسياسيًة غير رسمية لروسيا، وبالأدق “عقيدةً روحيةً” تتضمن “الحنين الروسي” للعظمة الإمبراطورية واستعادة الأمجاد، وأحياناً تعالياً وطموحاتٍ للخروج من حقبة “الأذى النرجسيّ” الذي لحق بالأمة الروسية، سواءٌ في سياق التفكك القيصريّ أو السوفيتيّ الذي كان الغرب سبباً فيه، أو نظرة الإمبراطوريات الروسية لنفسها في سياق المقارنة مع الإمبراطوريات الفرنسية والبريطانية في القرنين السابع والثامن عشر، وحتى نظرة الأوروبيين لها كإمبراطوريةٍ “فاشلة” تعاني الركود البيرقراطي، وفشل الانفتاح الخارجي، مع فشل الحداثة، وضعف الحريات عموماً..

يتضمن هذا المفهوم أربع مستوياتٍ: الأول هو اللاهوت، المرتبط بضرورة وحتمية وحدة الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، والمستوى الثاني هو الأنثروبولوجيا الثقافية المستمدة من الشعور بالوحدة في الأراضي السلافية الشرقية المرتبطة تاريخياً، من خلال العقيدة الأرثوذكسية الشرقية والثقافة السلافية، لذلك يعدّ هدف إعادة إحياء الوحدة السلافية، وهيّ جذر الهوية الروسية، واستعادة رمزية أم المدن الروسية “كييف”، والتأكيد على تاريخية مؤسس الدولة الروسية (كييف روس)، من بين أهداف العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا؛ والمستوى الثالث هو الأيديولوجيا التي بموجبها يجب أن تتصرف روسيا كقائدٍ للأمم “الأرثوذكسية الشرقية”، وأن تصبح مدافعًا عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية المسيحية، أمّا المستوى الرابع فهو الأنثروبولوجيا الحضارية إذ تشمل فكرة “العالم الروسي” مهمة جعل روسيا مركزًا حضاريًا روحانيًا وثقافيًا وسياسيًا لمواجهة الأيديولوجية النيوليبرالية للغرب.

ولفهمٍ أدّق لسياق الطرح الإمبراطوري الروسيّ والإصرار عليه في سياق الهوية الروسية، لابدّ من العودة إلى القرنين السادس والسابع عشر الميلادي، حين بنت إنجلترا وفرنسا إمبراطوريات ما وراء البحار، ولكن بعد شرطٍ أساسٍ وهو بناء دولتين قوميتين، بينما لم تنجز روسيا بناء دولةٍ قوميةٍ قبل أن تشرع في بناء أكبر إمبراطورية برية في العالم، لذلك، جعل التاريخ والجغرافيا الروسيين التراجع عن (رؤية) إمبراطورية أمراً صعباً، إضافة إلى أنّ القومية الروسية انغمست في هويات الاتحاد أكثر منها في إطارٍ خاصٍ، في نموذجٍ مشابه إلى حدٍّ ما للقومية الإنجليزية، ولكن مع فروقاتٍ ذات دلالة، فكلّ من إنجلترا وإسكتلندا أنشأتا اتحادًا متساويًا نسبيًا في عام 1707، حيث سُمح لإسكتلندا بالحفاظ على نظامٍ قانونيٍّ وتعليميٍّ منفصلٍ، وعملةٍ خاصة، بينما تُعدّ المعاهدة الأوكرانية الروسية لعام 1654 مصدرًا للخلاف حتى يومنا هذا، حيث لم تنظر أوكرانيا إلى الاتحاد على أنها متساوٍ كامل.

انطلاقاً مما سبق، لم تتمكن “القومية الروسية” – بعد – من فصل نفسها عن الوحدة السلافية، وحتى حين تفكك الاتحاد السوفييتي لم يسع القادة الروس ما بعد الاتحاد السوفيتي إلى إبعاد أنفسهم تمامًا عن فضاء الاتحاد السوفيتي السابق، وتأسيس “القومية الروسية” الخاصة، وظلوا ينظرون لأنفسهم على أنهم ورثة هذا الاتحاد، وأن تفككه أتى بسياق صراعٍ تاريخيٍّ ممتٍد مع الغرب النيوليبرالي.

لذلك تنظر روسيا لحربها في أوكرانيا على أنّها “حرب الضرورة” نحو إعادة توحيد ما تعتبره موسكو الأراضي المقسمة لروسيا التاريخية، وللحفاظ على الهوية القومية المحافظة الروسية، وتطوير الفضاء ما بعد السوفييتي، ومنع التفكك في بنى هذه الهوية (القومية والدينية والتاريخية..)، وانصهار جزءٍ تاريخيٍّ من هذه القومية في قيم النيوليبرالية وما بعد الحداثية الغربية، والتي تهدد مستقبلاً بمزيدٍ من الصدوع في “الهوية الروسية”، التي تريد روسيا تعزيزها بفضاءٍ أوراسيٍّ جديدٍ يجعل منها هويةً حضاريةً وثقافةً قطبيةً تعاكس الجذر النيوليبرالي للعولمة ونظامها السياسي “الأمركة”، هذه الأمركة التي قرأت جيداً إشكاليات الثقافة الروسية وتاريخيتها وظروفها، وبدأت بالعمل على تفكيك الإطار الكليّ الجامع لها، في أوكرانيا وبيلاروسيا عبر دعم تيارات التغريب النيوليبرالي فيها، وحتى في أسيا الوسطى عبر دعم الاحتواء الأطلسي لآسيا الوسطى (الأوراسية الأطلسية)، ومثالها المباشر كان أحداث كازخستان (كانون أول 2022)..

يبقى أن نشير إلى أنّ الحرب الروسية الأوكرانية (2022) نموذجٌ راهنٌ يعلمنا كيف تصنع الهويات الثقافية والحضارية، الحرب، وكيف نفهم الحروب بشكلٍ أكثر عمقاً مع المقاربات التقليدية للأمن القوميّ (الواقعية السياسية)، القائمة على الردع والتوازن والمصلحة وميزان القوى .. وتحولات فائض القوة.