مجلة البعث الأسبوعية

بعد توقيع “حفرة الأعمى” خليل صويلح: نعيش موجة روايات بدينة مليئة بالثرثرة

البعث الأسبوعية- أمينة عباس

احتفت دار ألف نون مؤخراُ بتوقيع مقامات الكاتب خليل صويلح والتي صدرت تحت عنون “حفرة الأعمى” وهو كتاب يتحدث عن السرد الروائي وأقرب ما يكون إلى السيرة الروائية ضمَّنَها صويلح ملاحظات ووصايا وإشارات وإرشادات لتكون خريطة طريق سردية كي لا يقع كتاب الرواية في حفرة الأعمى، منوهاً صويلح في بداية تصريحه للبعث إلى أن هذه الإرشادات موجهة إليه في المقام الأول، وأن النصوص الموجودة في الكتاب هجينة، والناشر أصدرها تحت مسمى “مقامات” لأنها كانت عصيّة على التجنيس، فهي مزيج من السرد والنقد والكتابة الجديدة، وأن ما قدّمه في هذا الكتاب يعبّر عن ذائقته كقارئ في المقام الأول، وإن كان الناقد فيه كان حاضراً إلا أنه لا يطرح نفسه ناقداً، ولا يضع نفسه في مكانه لأن النقد له قواعد مدرسية، وهو ضد المدارس النقدية جميعها ولا تناسبه الأكاديمية التي يعمل البعض عليها.

 

الروائي طاهي كلمات

ويبين خليل صويلح أننا اليوم نعيش موجة الروايات البدينة والضخمة المليئة بالثرثرة، فمعظم الروائيين يقعون في فخ الحشو والوصف الفائض عن الحاجة والاستطرادات المجانية من خلال الذهاب عمداً إلى كتابة الرواية البدينة ثقيلة الوزن، لذلك كان من أهم الوصايا في الكتاب الاختزال كضرورة بلاغية وجمالية في الرواية خصوصاً، لذلك دعا في الكتاب للتخلص من الثرثرة والفائض اللغوي وتقطير الجملة وضرورة المحو لأن الكاتب الجيد هو الذي يمحو أكثر مما يكتب، ويؤسفه أن “حفرة الأعمى” هي حفرة واسعة جداً في عالم الأدب اليوم لأن كتابة الرواية أصبحت نوعاً من أنواع الموضة عند البعض، ومثلما هناك هجرة لا شرعية خارج حدود البلاد توجد هجرة لا شرعية إلى الرواية بقوارب مطاطية مثقوبة، وبالتالي أصبح ما يُكتَب برأيه خالياً من الدهشة، إلى جانب أن بعض الروائيين يغرقون في إهدار عشرات الصفحات حول تفصيل ما إلى أن ننسى الفكرة التي سبقته وضرورة الفكرة التي تليه، ما يضطرنا إلى إعادة القصة ثانية، مبيناً -وهو الذي سبق وأن تحدث في كتابه “ضد المكتبة” عن ضرورة لفظ بعض الأشياء في كتابة الرواية والاحتفاظ ببعضها- أهمية التخلص من الأعشاب الضارة في الكتابة، دون أن يخفي أن ما كتبه في الكتابين هو نوع من الدعوة إلى التمرد على كل ما هو دون فائدة، حيث ينبغي أن تكون سكين الروائي مشحوذة جيداً للعمل على بتر أعضاء الجمل الإنشائية الفائضة دون بنج وتحديد المتن كي لا يفيض نحو هوامش الصفحات ويسيل الحبر خارجاً، فالروائي طاهي كلمات أولاً وآخراً، قائلاً في الكتاب: “اختزل شخصيات رواياتك إلى النص ثم أحطها بسور منيع لا يقل متانة عن الأسلاك الشائكة التي تحيط بإسطبلات الخيول واطرد البغال بعيداً”.

عشائرية النقد

عندما لا يكون لدى صويلح مشروع روائي يتجه إلى ما هو نقدي، وهذا الكتاب هو الرابع له في الاشتغال على الرواية، فقد سبقه “قانون حراسة الشهوة-ضد المكتبة-نزهة الغراب”  وهو كما يوضح يكتب في النقد نصاً موازياً للنص الذي يقرأه بعيداً عن تلك المصطلحات الدارجة التي تنتشر في كتابات بعض النقّاد، ويرى أن المعضلة النقدية اليوم تكمن في جانب منها في قصور أدوات الناقد أمام مقترحات الكتابة الجديدة، إذ يركن معظم النقاد برأيه إلى نظريات نقدية قديمة طويت في بلد المنشأ، أو أنها وصلت متأخرة إلى لغة الضاد، فيما يختزل الآخرون تجربة ما في وصفة جاهزة يمكن تعميمها على أي رواية أو ديوان شعر أو مجموعة قصصية باستيراد مصطلحات من طراز “التبئير” و”العتبات النصية” أو “أزمة الذات” مؤكداً في الوقت ذاته أنه وفي ظل ثورة الاتصالات لا مرشد حقيقي اليوم لاستبصار ما هو نوعي في الكتابة أمام طوفان النشر من جهة وعشائرية النقد من جهة ثانية، بالإضافة إلى رسوخ النقد الزبائني في المدونة النقدية العربية، حيث لن يجد الروائي أيضاً من يصف كتابه بما يستحق في ظل غياب المجلات الثقافية المقروءة والمنابر الرصينة وغياب النزاهة والشجاعة النقدية -إلا فيما ندر- مع وجود نقّاد يكتفون بتقليب الكتاب على عجل، مسترشدين بالصفحات الأولى منه أو بالنبذة التي تزين الغلاف الأخير وما تيسَّر من مراجعات سابقة أو وجود نقد يذهب بعيداً عمّا هو في النص إلى درجة لا يتوقعها الكاتب نفسه، مع استقالة الناقد من مقعده أو انزلاقه نحو المداهنة والمدائح الشخصية والنخوة العشائرية التي جعلت منه رافع أثقال مراوغاً، ناقلاً النص من وزن الذبابة إلى مرتبة أعلى بحركة بهلوانية واحدة.

التمرد

ويرى صويلح أن الكتابة هي ضد المألوف، وهو دائماً يُفضل التمرد على النص التقليدي، مؤكداً أن النصوص غير التقليدية قد لا يتقبلها كثيرون في البداية، والدليل أن روايته الأولى “ورّاق الحب” حين صدرت أثير جدل كبير حولها، فالبعض لم يعتبرها رواية لأنها لم تُكتب حسب القواعد الثابتة في كتابة الرواية التقليدية، أما هو فيؤمن أنه لا قواعد ثابتة في كتابة الرواية، والقاعدة في كتابتها ألا تكون لها قواعد، وهو خرج عن هذه القواعد في كتاباته لإيمانه أن الكاتب الجديد إن لم يكن لديه ما يمكن أن يضيفه فعليه أن يترك هذا الركن لغيره لأن الكتابة مغامرة، أما النجاح والفشل فهما موضوع آخر.

سيأتيك الغزال

كان الشعر في البداية ملعب خليل صويلح، ثم انتقل إلى الرواية التي تشبه تلك المساحة الصحراوية الممتدة التي جاء منها والتي تجيد الحكي، فاستردّ فيها مسقط رأسه، خاصة في روايته “سيأتيك الغزال” الرواية الأقرب إلى قلبه لأن فيها سيرته الأولى كبدوي قادم من الصحراء، مؤكداً أنها كانت نوعاً من ردّ دين قديم للصحراء التي ولِد عند تخومها، مع إشارته في الوقت ذاته إلى أنه في كلّ نصّ يكتبه تكون لديه شهية تجاه إنجازه، موضحاً أنه كتب كل رواياته بضمير المتكلّم، فبدت وكأنها سيرة ذاتية له، لكن صويلح يؤكد أنها ليست كذلك، فهي إما سيرة افتراضية أو سيرة مشتهاة أحياناً، مع إشارته إلى أن الكاتب لا يمكنه أن يتخلى عن سيرته تماماً في كل ما يكتبه ولا يمكن استبعاده عما يكتب لأنه في النهاية يعبّر عن رؤيته وعن تجاربه الشخصية.

وهن سرديّ

يشير صويلح إلى أن الرواية السورية جزء من خريطة الرواية العربية، فالروائيون العرب يكتبون بلغة واحدة وعن بيئات متجاورة، لذلك ليس هناك خصوصية لأي واحدة منها برأيه، مع تأكيده على أن الروائي له جغرافيته الخاصة التي لا تشبه الآخر، فالروائيون السوريون لا يشبهون بعضهم رغم الجغرافيا الواحدة،  ويحزنه وجود وهنٍ سردي يجتاح حمى الكتابة الروائية اليوم، حيث باتت المشكلة ليست في البدانة أو الهزال فقط وإنما في الخفة التي لا تُحتمل ونقص الكلس في المفاصل، حيث تصادفنا روايات منذ صفحاتها الأولى بمشية عرجاء وبعكاكيز غير مرئية تستند إليها اللغة وتفضحها الأخطاء النحوية باكراً، فلا بريق مدهش في عمارة الجملة، وإنشاء آفل في الوصف الذي لا لزوم له أصلاً، مع وجود حكاية لم تخضع لأدوات السرد، بالإمكان أن يكتبها سائق شاحنة أو حلاق، في حين أن الكتابة برأيه تحتاج إلى قدرة طائر البوم الذي يستطيع الالتفات إلى 270 درجة لاصطياد طرائد اللغة والأفكار الصغيرة التي تختبئ في الظل وإلى رواية بعقارب سردية لتوقظ حواس القارئ، ودون ذلك لا يعوّل عليها، كما وجب علينا حسب صويلح أن نحذر ديناصورات الكتابة وهم يستحضرون لغة محنطة وكأن الكوكب لم تلتهمه الحروب والثورات والأوبئة وفوتوغرافيا السيلفي ومنصات السوشال ميديا والخرائط الجديدة وأنواع الإذلال، وإننا نحتاج إلى قوانين إسبارطة الصارمة في ترتيب عجلات السرد تقنياً، وإلى عاطفة إيثاكا لعناق خرائط مختلف الأجناس الإبداعية.

ويختتم صويلح تصريحه مؤكداً أنه يهجر روايته ولا يقرأها بعد الإنجاز، وهو اليوم يعمل على كتابة رواية عن الموت ولكنها ما زالت دون اسم.

أسرار المطبخ الكتابي

ويشير أ.أيمن الغزالي صاحب دار ألف نون أنه من ضمن أهداف الدار محاولة إنتاج كل أشكال الإبداع السوري، ويُعتبر صويلح من الوجوه الثقافية المهمة في بلدنا، لذلك تحرص الدار على نشر كل أعماله، مبيناً أن كتاب “حفرة الأعمى” هو كتاب مختلف جداً، فهو ليس إشكالياً بقدر ما هو كتاب وضع فيه صويلح علامات إرشادية ليكون خارطة لمن يريد الكتابة، وهو نوع من أنواع السيرة الذاتية التي يكتبها الكاتب بينه وبين نفسه حين يدخل إلى المطبخ الكتابي مفشياً فيه بعض الأسرار الكتابية وقد حاول فيه أن يكون مرشداً لنفسه أولاً وللآخرين ثانياً وبكل جرأة ليكون الكاتب حقيقياً فيما يكتبه من خلال الاعتراف والبوح والشطب والحذف والإضافة، وأشار صويلح في كتابه إلى المطبات التي قد يتعرض لها الكاتب أثناء كتابة الرواية، فوضع بعض العلامات ليتجنبها الكاتب وليكون الكتاب نوعاً من أنواع البصيرة والإرشادات الضوئية التي ترشد الكاتب حتى لا يقع في هذه الحفر لأن كثيرين وقعوا فيها، لذلك فإن “حفرة الأعمى” برأيه بوصلة حقيقية لكتابة الرواية.

واقعية لا تشبه أحداً

وتبيّن الكاتبة والإعلامية نهلة كامل أن خليل صويلح روائي يجمع صفات ثقافية نادرة، فهو صاحب تجربة كبيرة في الحياة، تنقّل ما بين البادية والمدينة، وقد منحته تجربة البادية خيالاً واسعاً وروحاً حرّةً، فتميز بلغة خاصة به تجمع عدة صفات، فهي تختزن الثقافة وتُقدّم الموقف منها، إضافة إلى ثقافته الواسعة التي تجذرت من خلال عمله الصحفي واطّلاعه المبكر على أهم الأعمال الروائية، مشيرة إلى أنها قرأت كل رواياته وتوقفت كثيراً عند ثلاثة منها تعتبرها من روائع الأدب الروائي في الوطن العربي، حيث أدهشتها “سيأتيك الغزال” التي تحدث فيها عن تجربته وشخصه ومواقفه، و”ورّاق الحب” الرواية الجميلة التي عبّرت عن ثقافته، و”عزلة الحلزون” التي من الصعب أن يتجاوزها أي روائي أو قارئ لتكنيكها الرائع واستخدامه البارع لأمهات الأدب العربي للوصول إلى نتائج رائعة، موضحة كامل أن كتاباته تتراوح بين الواقعية والواقعية السحرية ولكن الواقعية السحرية التي يكتبها بواقعيته التي لا تشبه أحداً.

مبدع سوري

الحديث عن خليل صويلح الروائي بالنسبة للإعلامي عماد نداف يعني الحديث عن عالم الرواية الجديدة ليس لأن ما يكتبه مختلف على صعيد الأسلوب واللغة والبحث في عوالم جديدة بل لأن ما يكتبه هو أسلوبٌ جديدٌ عن البيئة نفسها التي نعيش فيها، إضافة إلى أنه صحفي نشيط، يكتبُ ويوجزُ في العبارة، ويُقدّم للقارئ الخبر والمادة الصحفية بطريقة جذابة تُعيد القارئ إلى عوالمه الروائية والنقدية، مبيناً أنه قرأ له عدة روايات ولكن رواية “سيأتيك الغزال” أخذته إلى البيئة في الشمال السوري، وسحرَه تعاطي صويلح مع هذه البيئة ولا سيما انتقاؤه لشخصيات الرواية، في حين أن رواية “عزلة الحلزون” بعوالمها الساحرة كشفت قدرة عجيبة لصويلح بتعاطيه مع هذه العوالم بلغة وشخصيات جديدة حين عاد فيها إلى التاريخ وعزلة الكاتب، مؤكداً نداف أن كل ما يكتبه صويلح ساحر، ولنعرف ماذا يريد أن يقول نضطر لإعادة قراءة ما يكتب لنبحث عن خفايا الرسالة التي يريد أن يُقدّمها لنا وهو المتميز بجرأته ونأيه عن الواقع اليومي والروتيني في الكتابة وعن المجترّات الثقافية، لذلك يحاول دائماً أن يأتي بما هو جديد، وهذا ما جعله مبدعاً يمثل الثقافة السورية بجدارة ونحن نعتز به.

 

إلى السرد بلغة الشعر

ويرى الاعلامي زيد قطريب أن صويلح دخل إلى السرد بلغة الشعر حيث لا مكان للملل في كتاباته الغنية بالوصف واللغة والمعلومات التي يحصل فيها القارئ على المتعة والفائدة لأنها كتابات ذكية حيث البوصلة لدى صويلح دائماً واضحة وهو الذي استفاد من نصه الصحفي الذي يكتبه، فصار نصه السردي رشيقاً يجمع فيه ما بين التشويق والعمق، وهذه مهارة لا يتقنها كثيرون، منوهاً قطريب إلى أن صويلح خاض تجاربه بتسلسل زمني منطقي ولم يُقدّم نصوصه للقارئ إلا بعد أن اختمرت وفي وقتها دون تسرع، لذلك تركت كتبُه أثرها وكان لها حضورها.