عبر الشدائد نحو النجوم
ذات يوم دار حديث بين بابلو بيكاسو وصديقه الرسام والمصور الفوتوغرافي الفرنسي براسيه، الذي اشتُهر بتصوير المشاهد الباريسية الغامضة. في ذلك اليوم، نحا حديثهما نحو رسومات براسيه غير المعروفة آنذاك، والتي أخفاها عن أعين الناس بغية التركيز على مهنته في التصوير، وكان بيكاسو مصمماً بعزم على إخراجها إلى النور.
انطلق بيكاسو في حديثه من رؤية خالفت هوى بعض الفنانين ممن استقبحوا “النجاح”، من حيث أنه، في رأيهم، يمسّ بنزاهة الفنان ورؤيته، أو يحطّ من شأن الإبداع الفطري، وبيكاسو استهجن هذا الرأي، إذ قال لصديقه الفرنسي ذات مرة: “يتناهى إلى مسامعنا مراراً أن على الفنان أن يعمل لمجده، ومحبةً بالفنّ، وعليه أن يزدري النجاح، وهذه حجة باطلة، فالفنان يحتاج إلى النجاح”.
بالطبع، كان بيكاسو يتحدث من واقع خبرته، إذ إن نشأته كانت متواضعة، وعمل بشرهٍ ونهمٍ، دون المساس برؤيته الفنية، وأشاح وجهه عن الميول السائدة والانتقادات، فوصل خلال سعيه إلى الرضا الإبداعي والشهرة الواسعة والثروة الهائلة.
فلا عجب -إذن- أن يُسهب الحداثي الإسباني الشهير حينذاك في الحديث عن موضوع النجاح، ولاسيما أنه يؤمن بأنه أمر يستطيع أي امرئ تحقيقه، طالما اتّبع الوصفة الصحيحة.
ورأى الرسام الإسباني أن نجاح المرء وتفانيه المتصلّب في حرفته إربان لا ينفصلان، لذا أكد لبراسيه أنه كان يحدّ من نفسه على الصعيدين الإبداعي والمالي بإخفاء أعماله غير الفوتوغرافية، فحدثه بيكاسو ناصحاً: “إن وددت أن تبوح بما في خلجك وخاطرك، وأملت التعبير عنه، فيمسي الخنوع والتخاذل أمراً مرهقاً لا يحتمل على مرّ الأيام، لذا على المرء أن يتحلى بالشجاعة لإشاعة موهبته، والشجاعة لكسب قوت يومه منها”.
آمن بيكاسو أن على الفنان ألا يتخلّى أبداً عن شغفه الإبداعي، الذي يجعل منه إنساناً مميزاً بحق، وكان يؤمن أن الدأب ضروري، حتى لو أتت المكاسب المالية بخطاً متلكئة، لكنها ستصل في النهاية إلى الذين يبدعون في العمل الذي أرادوا إنجازه، لا إلى من عمل عملاً كُلّف به، إذ قال بيكاسو: “عانيت أيضاً من الإفلاس في أوقات كثيرة، ولطالما كنت أقاوم أي إغراء للعيش عبر أي وسيلة أخرى غير الرسم. ولم أبع أعمالي في البداية بسعر مرتفع لكني نجحت في بيع بعض منها، وذاع صيت رسوماتي ولوحاتي، هذا ما يهمّ”.
لا ريب أن بيكاسو كان فريداً من حيث مستوى النجاح الذي حققه، فقد توفي في عام 1973 وهو يعلم أنه أحدث ثورة في عالم الفن، وحصد أموالاً طائلة. بيد أنه آمن كذلك أن المنجز العظيم يأتي بأشكال عديدة، ولا ينبغي أن يقتصر على قلة مختارة، إذ قال لبراسيه متأملاً حالماً: “لماذا نترك النجاح للرسامين الذين حققوا نسبة بيع أكبر؟ لكل جيل رساموه. ولكن أين كتب أن النجاح يطرق دوماً باب الذين يرضون أذواق الجمهور؟ فأنا عن نفسي، أردت أن أثبت أن بإمكاني تحقيق النجاح رغم أنف الجميع، ودون مساومة”.
ورافق نجاح بيكاسو مسؤولية دعم الآخرين، فقد كان يأمل في أن يكون نموذجاً للإصرار والمخاطرة الإبداعية، وما تحمل من مكافآت مفترضة، بمعنى: الحفاظ على النزاهة الفنية، فضلاً عن الاستقرار المالي. لقد كان رجل أعمال متقد الذكاء، كما أشار جون بيرغر في كتاب سيرة ذاتية بعنوان “نجاح بابلو بيكاسو وإخفاقه” (1965)، وكان ينصح أصدقاءه الفنانين الأقل ذكاءً حول مزايا ترويج المرء لنفسه وبيع أعماله.
من جانبه، تلقى براسيه سيلاً من التوبيخ القاسي، وقال له بيكاسو عندما بدأ عرض رسومات براسيه حول منزله: “يجب أن تُعرض لوحاتك وتباع. دع الأمر لي، سأهتم بالأمر.. أنا متأكد من أنك ستنجح”.
في الواقع، في ذلك اليوم بالذات، اقترح بيير كول، وهو تاجر محترم يملك معرضاً في شارع سان أونوريه على براسيه بأن يعرض رسوماته في صالته. وقبل أن يغادر المصور، قدّم له بيكاسو موعظة أخيرة: “لا تُسعّرها بأسعار باهظة. ما يهمك الآن هو أن تبيع عدداً كبيراً منها.. يجب أن يرى العالم رسوماتك”.
ولم يكن براسيه الفنان الوحيد الذي استفاد من نصيحة بيكاسو، إذ استفاد الرسام الفرنسي هنري ماتيس من فطنة بيكاسو التجارية وإيمانه بأن بوسع الفنانين، وينبغي عليهم، أن ينجحوا. قال ماتيس لبراسيه في عام 1946: “كل عام أرسل صندوقاً من البرتقال إلى بيكاسو، ويرسل لي بيكاسو من يبتاع أعمالي”.
علاء العطار