تهديدات الانتعاش الاقتصادي العالمي
عناية ناصر
مع اقتراب الذكرى الثانية للوباء، يثير ظهور متغيّر “أوميكرون” موجة من عدم الاستقرار في الأسواق المالية، وعلى ما يبدو يمكن للسلالة الجديدة من الفيروس شديدة الانتشار أن تؤدي إلى انتكاسة التعافي الاقتصادي في جميع أنحاء العالم. حتى لو ثبت أن “أوميكرون” يمكن مواجهته، فمن المحتمل أن يكون عام 2022 عاماً صعباً اقتصادياً، حيث تنحشر دول العالم بين القوتين الاقتصاديتين الولايات المتحدة والصين، فهما يمثلان معاً 40٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ويميل العملاقان إلى التأثير على الاقتصادات الأخرى بطرق مختلفة.
أما بالنسبة للعديد من البلدان الناشئة، فإن النمو القويّ في أمريكا هو سيف ذو حدين، إذ غالباً ما يطغى التأثير التوسعي لإنفاق الأسر على تأثير سياستها النقدية نظراً للدور الحاسم لسندات الدولار وسندات الخزانة في النظام المالي العالمي. وغالباً ما ترتبط السياسة النقدية الأمريكية الأكثر تشدداً بانخفاض الرغبة في المخاطرة، فتميل تدفقات رأس المال نحو الأسواق الناشئة إلى الانحسار، وتقلّل قوة الدولار من التدفقات التجارية.
أما تأثير الصين على العالم فهو أكثر وضوحاً، فهي، بهامش كبير، أكبر مستهلك للألمنيوم والفحم والقطن وفول الصويا في العالم، من بين سلع أخرى، ومستورد رئيسي للسلع. وعندما تتعثر الصين، يشعر المصدّرون حول العالم بالألم.
لذلك لن يكون العام المقبل هو المرة الأولى التي تضطر فيها الاقتصادات إلى مواجهة الخطرين، ففي منتصف عام 2010، تعرضت الأسواق الناشئة الضعيفة للضغط بسبب ارتفاع الدولار، حيث سحب الاحتياطي الفيدرالي الدعم النقدي المقدم خلال الأزمة المالية العالمية، في حين أدت جولة سيئة من تحرير الأسواق المالية وتشديد الائتمان إلى حدوث ركود في الصين. فتراجع النمو عبر الأسواق الناشئة، باستثناء الصين، من 5.3٪ في عام 2011 إلى 3.2٪ فقط في عام 2015.
قد يكون الضغط هذه المرة أكثر إيلاماً، ففي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أجبر الانتعاش الضعيف والتضخم المنخفض بعناد بنك الاحتياطي الفيدرالي على التباطؤ. وقد مرّ أكثر من عامين ونصف العام بين إعلان الاحتياطي الفيدرالي عن نيّته تخفيض مشترياته من الأصول وأول ارتفاع في معدل سياسته. هذه المرة، على النقيض من ذلك، من المرجّح أن تتضمن الأشهر الـ12 التالية لإعلان بنك الاحتياطي الفيدرالي عن خطته للبدء في التناقص التدريجي بدءاً من كانون الثاني القادم وقفاً تاماً لشراء السندات وزيادتين على الأقل في أسعار الفائدة.
من جانبها، يبدو أن الصين معرّضة للضغط أكثر مما كانت عليه قبل نصف عقد، حيث يوجّه المسؤولون الاقتصاديون الآن تحذيرات منتظمة تنذر بالسوء بشأن التعديل المقبل. لقد ازدادت أهمية الصين بالنسبة للاقتصاد العالمي منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكن يظل العالم عرضة للصدمات، ومن المرجح أن يؤدي انتشار “أوميكرون” إلى فرض المزيد من الضغوط على الحكومات. أما بالنسبة للاقتصادات الأكثر هشاشة فيمكن أن يكون ذلك مزعزعاً للاستقرار.
وللتحقق من ذلك، قامت مجلة “ذي إيكونوميست” بجمع بيانات حول عدد قليل من متغيّرات الاقتصاد الكلي الرئيسية لـ60 اقتصاداً كبيراً، غنياً ونامياً، وأظهرت تلك البيانات أن العجز الكبير في الحساب الجاري، والمستويات المرتفعة للديون -الديون قصيرة الأجل المستحقة للأجانب على وجه الخصوص-، والتضخم المتفشي وعدم كفاية احتياطيات النقد الأجنبي، كلها عوامل تسبّب مشكلات للاقتصادات التي تواجه تدفقات رأس المال المتقلبة مع تشديد السياسة الأمريكية، حيث يؤدي الجمع بين أداء البلدان في هذه المؤشرات إلى “مؤشر الضعف”. على سبيل المثال، تواجه الأرجنتين، التي تتصدّر القائمة، معدل تضخم يزيد عن 50٪ وأزمة اقتصادية متفاقمة. كما تتفاقم مشكلات تركيا بفعل رغبة الحكومة في خفض أسعار الفائدة في مواجهة ارتفاع الأسعار، حيث تعرضت الليرة لضغوط شديدة، وخسرت ما يقرب من 40٪ مقابل الدولار في عام 2021، مما قلل من القوة الشرائية للأجور والمعاشات التقاعدية للأتراك.
إن أعباء الديون المرتفعة للغاية في بعض البلدان الغنية تدفعها إلى أعلى القائمة، فعادةً ما توسّع الأسواق في العالم الغني مجال تنفس أكثر، ولكن إذا شدّدت الظروف المالية العالمية بشكل كبير، فقد يحتاج القادة الأوروبيون إلى بذل المزيد من الجهد لإقناع المانحين بأن اليونان لن يُسمح لها بالوقوع في مشكلات خطيرة. وهنا تبدو البرازيل من بين الاقتصادات الناشئة الكبيرة، الأكثر ضعفاً.
وبمقارنة مقياس الضغط على الصين وتشديد السياسة النقدية الأمريكية، فلا شك أن مصائر بعض البلدان سترتبط بأحد العمالقة أكثر من الأخرى. ويبدو أن دولاً مثل البرازيل وتشيلي ستعاني على الأرجح من ضربة مزدوجة، وقد يؤدي ضعف الاقتصاد الصيني إلى حرمان البرازيل ثقة المستثمرين، مما يؤدي إلى تراجع العملة، وزيادة التضخم واحتمال حدوث أزمة اقتصادية.
قد تزيد السياسة النقدية الأمريكية الأكثر تشدداً الضغط على الاقتصاد الصيني على الرغم من أن احتياطيات الصين الهائلة من العملات الأجنبية توفر لها حاجزاً بعد أن تلقت تدفقات مالية كبيرة على مدار العامين الماضيين مما عزّز قيمة اليوان، لكن قد يؤدي التراجع المفاجئ في هذه التدفقات إلى انخفاض حاد في قيمة العملة، على غرار الانخفاض الذي تسبّب بزعزعة استقرار الأسواق في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
لذلك سيضيف ظهور “أوميكرون” حالة جديدة من عدم اليقين، ولا يُعرف الكثير حتى الآن عن الضرر الاقتصادي الذي قد يحدث. من هنا إذا كان “أوميكرون” سيؤثر على التجارة والنمو، فإن انتشاره سيزيد من حدة الضغوط التي تواجه الاقتصادات الضعيفة، ولن يكون الأمر سهلاً لها.