مكتشفات يمحاض الأثرية ثقافة فنية ومنجمية
البعث الأسبوعية-غالية خوجة
الأرض السورية معطاءة ومباركة، وما تزال تعلن عن حضارتها بمختلف الأشكال، منها المكتشفات الأثرية القديمة والتي أصبحت معروفة للعالم وتمت فهرستها كتراث إنساني عالمي، ومنها المكتشفات الأثرية الحديثة التي يتم اكتشافها معلنة عن نصوصها الحياتية المتجذرة.
وتشهد هذه المكتشفات الأثرية على حلب كأقدم مدينة مأهولة في العالم دون انقطاع، وتبعاً لمنظمة اليونسكو للبحوث التأريخية والأثرية فإن عمر الشهباء يعود إلى 12200 سنة قبل الميلاد.
كما أن هذه المدينة عرّفت العالم على أقدم رسوم جدارية اكتشفت عام 2002 في موقع تل جعدة المغارة مرسومة على جدار أحد المنازل، وتتألف هذه الرسوم من أشكال هندسية ملونة بالأبيض المستخلص من حجر الجير، والأسود الناتج عن كربون الفحم، والأحمر المنتَج من حجر الهيماتيت، وأكدت النتائج المستخلصة من تحليل الكربون سي14 للتأريخ بأن عمرهذه الرسوم الحائطية يرجع على الأقل إلى 11 ألف عام، مما يوثق مادياً لبداية العصر الحجري الحديث من حلب، ويوثق لشروق المدنية والمدن والتمدن من سورية لا من أوروبا وغيرها.
معبد يمحاضي
ولأن حلب كانت مركزاً دينياً عالمياً يسمى “الأكروبوليس”، تم العثور على معبد قديم من مملكة يمحاض التي كانت حلب عاصمتها وذلك في الألف الثانية قبل الميلاد، وهو واحد من دُور عبادة كثيرة تحيط بالجامع الأموي وتتوزع حوله في أغلب المدينة القديمة التي تعج بالزوار والتجار والسياح والمتعبدين القادمين من أنحاء العالم لممارسة طقوسهم وكأنها كانت محجاً للأباطرة وشعوب العالم.
قبور منجمية
كما اكتشفت أثناء ترميم الجامع الأموي الكبير بحلب (1999-2006)، مقبرة تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد فترة الازدهار الحضاري لممالك إيبلا وماري وآلالاخ ويمحاض، ودلت الحفريات التي رافقها فريق أثري، حينها، على قبر في الحفرة رقم 207 وعلى عمق أكثر من 7 متر، وفيه كمية كبيرة من الكسر الفخارية موزعة عشوائياً تتخللها عظام آدمية، إضافة إلى مشبك برونزي ناقص وصحون فخارية صغيرة أحدها عليه آثار تلوين.
وبلغ عدد اللقى 60 جرة صغيرة، تخبرنا عن الحياة اليومية التي عاشها الناس في هذا المكان ومدى تطورهم الثقافي ابتداءً من الطعام وأدواته، عبوراً بطريقة الحياة والتفكير والتعامل التجاري والاقتصادي والاجتماعي، وصولاً لعادات الدفن وحرمة الموتى.
وأكد البحاثة المكتشفون على تصنيف هذا القبر من القبور المنجمية المتخذة لشكل دائرة تضيق نحو الأعلى، وقطر قاعدتها حوالي 3 أمتار، ومدخلها شاقولي.
فنون فسيفسائية
وضمن المكتشفات ظهرت في حفرة بجوار العمود رقم 105 لوحة فسيفسائية ممتدة تحت الجدار الجانبي على عمق 1,85 م من أرضية الجامع، تخلو من الأشكال والصور المجسمة، لكنها مزينة بطريقة هندسية، وبعدة ألوان، وبلا شك، لهذه اللوحة حكاية ترويها بمعانيها الفنية ورموزها، باعتبارها نصاً قابلاً للاكتشاف المستمر.
باب زنكي وجرتان
وعثر في الرواق الغربي على فتحة باب يؤدي إلى خارج الجامع، وجدتْ بجانب عضادته اليمنى كِسَر لوحة رخامية غير مكتملة عليها آثار حريق نجت منه عبارة “سنة خمسمائة وأربعون”، لتخبرنا أنه أثر من العهد الزنكي.
وفي هذا الرواق ظهرت جرتان كبيرتان من الفخار هما الآن في متحف حلب الوطني تحكيان الأحداث التي مرت على وجودها بدءً من يد صانعها ومقتنيها واختفائها إلى لحظة اكتشافها وانتقالها إلى المتحف لتعيش حياتها المعاصرة كشاهد على حقبة تراثية إنسانية.
حمام بيزنطي بتدوين يوناني
بينما في القبلية، وعلى عمق 40 سم، وجد حجر كلسي نقش عليه تدوين يوناني من العصر البيزنطي قرأه الباحث “بيير لويس غاتييه”، ونشرت ترجمته في مجلة حوليات أثرية عام 2001 بعنوان “حمام بيزنطي في حلب”، ومما جاء فيها:”أعادت الكنيسة المقدسة، بكرم من جوستنيان، الإمبراطور الورع، وإثر سفارة ميغاس، الراعي القديس، وبعناية منه، بناء الحمام المحروق”.
وهذا يجعلنا نتساءل عن شيفرة الحريق واشتباكها مع الحريق والدمار عبر الأزمنة، ولماذا تستهدف مصادر الإشعاع؟
المئذنة لا تؤكد الظنون
تعتبر مئذنة الجامع الأموي تحفة فنية معمارية فريدة، اكتشف لها شريط كتابي سادس في أعلاها، يبدأ من الواجهة الجنوبية ويحيط بجدران الجواسق الأربعة، وعندما تمت قراءة المكتوب على الواجهة الشرقية المؤرخ لتأريخ انتهاء بناء المئذنة 1095م، تبين أن انتهاء بنائها يعود إلى عهد رضوان بن تتش وليس عهد أبيه كما ظن الباحث هرتسفيلد الذي بنى رأيه على ورود اسم تتش في الشريط الكتابي الخامس تحت صحن الأذان.
والمئذنة التي روت الكثير وتروي الكثير، يقول عنها التأريخ بأن من بدأ في بناء مئذنة جديدة لأهم مساجد حلب هو أبو الحسن محمد بن الخشاب، كما يثبت أحد النقوش ذلك، وبنيت كعنصر عضوي في الجامع، وارتقت بالمساحة المقدسة المركزية، وبذلك تكون أول مشروع بناء ضخم بعد قرون من التراجع، وكأنها تعرضت لإعادة البناء في العصور الوسطى مع إعادة بناء الجامع الأموي ومحيطه في القرن السادس الهجري-الثاني عشر الميلادي، وها هي تعود إلى بقائها مع إعادة الترميم والبناء الحالية بعد الحرب الظلامية الكونية على سورية.
آثار معمارية
وكشفت الحفريات الأركيولوجية عن كثير من كسر تيجان الأعمدة وهياكلها، والمناهل الحجرية، وأحجار الرحى، والأكواز الفخارية المستخدمة لنقل المياه، وصهاريج الماء والآبار، وهي آثار تؤكد على الاهتمام بالحياة المعمارية، والمدنية المعتمدة على الماء وأدواته، ومصادره الطبيعية، متسائلين متى سنهتم أكثر بثروتنا المائية ومنها مياه الآبار؟
ستظهر آثار أخرى
ترى، ما الذي تخبئه باطن هذه الأرض من أزمنة وعصور؟ وما الذي ستحمله لنا من اكتشافات جديدة تخبرنا عن الحيوات والعصور والحقب السابقة؟ ولماذا لا تتسابق البشرية إلى اكتشاف ذاتها وأراضيها وكنوزها قبل أن تكتشف الكواكب الأخرى؟ وكيف ستقوم اليونسكو بمهامها في هذا المجال بشكل أفضل؟