مجلة البعث الأسبوعية

بريطانيا تعود إلى ماضيها

” البعث الأسبوعية ” عناية ناصر

مطلع هذا العام، أكملت بريطانيا عملية مغادرة الاتحاد الأوروبي. وبالتأكيد، ستكون هناك عواقب اقتصادية على المملكة المتحدة، لكن من الصعب تخيل أن مغادرة ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا لن تكون لها عواقب كبيرة على أوروبا أيضاً، أقله أن إتمام مغادرة بريطانيا يحطم أسطورة الاتحاد الأوروبي، فقد كان اسم “الاتحاد الأوروبي” مرادفاً لكلمة “أوروبا”. ولم يكن ذلك معادلاً حقيقياً أبداً، حيث كانت هناك دول أوروبية مستبعدة وغير مهتمة بالعضوية، واختارت علاقة غير عضو، مثل سويسرا والنرويج؛ ولكن، ومع وجود بريطانيا في الخارج، تلاشى الشعور بأن الاتحاد الأوروبي يتحدث نيابة عن أوروبا.

تعد بريطانيا جزءاً أساسياً من أوروبا، وأحد محرري أوروبا في الحرب العالمية الثانية؛ وبدءاً من الغزو الروماني لإنكلترا، كانت بريطانيا العدو والمخلص، فقد كانت قوة حاسمة في أوروبا، وسوف يشكل خروجها تحدياً لهذه الكتلة من نواحٍ عديدة، أولها أن هناك الآن أوروبا أخرى.

منذ الاستفتاء، كانت هناك قضيتان: الأولى ما إذا كان المعارضون البريطانيون لخروج بريطانيا قادرين على الإطاحة بنتيجة الاستفتاء، والثانية ما إذا كان بإمكان الاتحاد الأوروبي أن يبدو متصالحاً مع بقية دوله.

بدا في بعض الأحيان أن هاتين القوتين تعملان معاً لمنع خروج بريطانيا، وفي النهاية فشلتا، على الرغم من أن بروكسل قد تستمر في الضغط حتى يتوقف البريطانيون عن شراء سيارات لكزس لصالح مرسيدس.. عند هذه النقطة، ستضع القوة المركزية في أوروبا، ألمانيا، حداً للإجراءات العقابية، وسيتقدم الاتحاد.

القضية المهمة الآن هي تحديد بريطانيا لمكانتها في العالم، إذ لا حرب عظمى في أوروبا في الوقت الحالي، وليس هناك إلاّ القليل من الخوف عسكرياً. إنه لوضع غريب، فبين عامي 1945 و1991، واجهت بريطانيا “التهديد” السوفييتي، وبين عامي 1914 و1945، واجهت التهديد الألماني، مع هدنة بينهما، فما هو التهديد الآن؟

تظل بريطانيا عضواً في الناتو، وهو ليس كياناً أوروبياً حتى لو كان معظم أعضائه أوروبيين. وتوفر الولايات المتحدة القوة العسكرية المحتملة لحلف الناتو، وبريطانيا هي واحدة من الدول الأوروبية القليلة التي تمتلك قوة عسكرية كبيرة، وحتى عالمية، في قلب الناتو. وكانت الولايات المتحدة حليفة بريطانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخلال الحرب الباردة، والحرب على العراق وأفغانستان، وقد عززت هذه الحروب العلاقات بين جيوش الناتو. وبالنسبة للبلدان الأوروبية القارية، التي مزقتها الحربان العالميتان والخوف من الحرب الباردة، فإن القضية الأساسية هي التركيز على الاقتصاد وتجنب الصراع، وتواجه بريطانيا منطقة جرتها تاريخياً إلى صراعات لكنها فشلت على مدى ألف عام في غزو بريطانيا، وتأثر تاريخ بريطانيا بالحاجة إلى التدخل في أوروبا بسبب تفككها.

مشكلة بريطانيا هي أنها لا تستطيع التحكم في تطور أوروبا بنفسها، ففي الحرب العالمية الثانية، جردت الولايات المتحدة بريطانيا من إمبراطوريتها، وقيدت قوتها ونفوذها. استاء البريطانيون من سياسة الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب، لكنهم تعايشوا معها، وكانت بريطانيا سيدة التعايش مع الحتمية.. وخلال حرب الفوكلاند، كانت صور الأقمار الصناعية الأمريكية الممنوحة لبريطانيا هي التي مكنت من تحقيق نصر سريع، وفي الحروب الأخيرة قاتل الأمريكيون والبريطانيون معاً بسهولة لم تكن تتمتع بها أي منهما مع الدول الأخرى. كان البلدان – بدءاً من العمليات العسكرية إلى العمليات الاستخباراتية – على ارتباط وثيق، وبغض النظر عن مدى التوتر بينهما، خاض البلدان معاً قرناً من الحروب ضد الألمان؛ وفي الآونة الأخيرة، أرسل البريطانيون حاملة طائرات إلى غرب المحيط الهادئ لدعم العمليات الأمريكية. وكان التحالف البريطاني الأمريكي أعمق من هذا، فقد شكلا معاً جزءاً من العيون الخمس، وهي مجموعة من خمس دول – الدول الأخرى هي أستراليا وكندا ونيوزيلندا – ملتزمة بتشارك المعلومات الاستخباراتية.

عند طرح السؤال عن مكانة بريطانيا، تظهر الإجابات التالية: أولاً، التجارة مهمة، لكن أسواق أمريكا الشمالية كبيرة مثل الاتحاد الأوروبي. ثانياً، لا يمكن توقع ما يحدث في أوروبا إلى حد كبير، وهي متقلبة في كثير من الأحيان، في حين أن وجود بريطانيا في الناتو يبقيها في أوروبا إلى جانب الولايات المتحدة، وبالتالي بثقل. أخيراً، يركز تحالف دول العيون الخمس، أحفاد بريطانيا الذين تطوروا بما يرضيها، على ما هو أكثر أهمية من أي شيء آخر، ألا وهو الحرب والاستخبارات.

من المرجح أن يتم احتواء القضايا الأيرلندية والاسكتلندية والويلزية، لكن يمكن الآن طرح فكرة أن بريطانيا لم تعد إمبراطورية عالمية، إذ لا يمكنها العيش مع أوروبا، لكن يجب أن تتماشى مع الآخرين. العيون الخمس، كتحالف استخباراتي وعسكري، موجود بالفعل ولا يحتاج إلى التفاوض. ولكن التحالف فضفاض بدرجة كافية بحيث لا يضطر أي شخص إلى القيام بأكثر من تبادل المعلومات الاستخبارية، كما أنه مرتبط بالتاريخ؛ ويمكن لهذه الدول الخمس أن تكون قوة لا يستهان بها، فضلاً عن سوق مشتركة بالفعل ومفتوحة بسهولة. ولكل أمة دولة فيها.

ويجب ألا يكون المرء متحمساً جداً، فالاحتكاك هو طبيعة الوحش. لكن هذا التحالف قائم بالفعل، وتوسيعه ليشمل الاقتصاد (مع وجود العديد من اتفاقيات التجارة الحرة بالفعل) هو الخطوة المنطقية التالية.