مجلة البعث الأسبوعية

بئر الهمل.. كتاب تاريخ لأكثر من مليون سنة

بئر الهمل موقع أثري قديم اكتشف وسط بادية الشام، ويعد كتاباً تاريخياً ما زال مفتوحاً بحقبه مختلفة التي تمتد على قرابة مليون سنة، وترسباته التي يشكل كل منها حقبة زمنية تترواح ما بين 50 ألف و100 ألف سنة.

وتقع البئر في حوض الكوم في قلب البادية السورية، وبالضبط ما بين الرقة شمالاً وتدمر جنوباً. ومن المؤكد أن صاحب البئر نفسه لم يكن يدري أن المنطقة ستكتسي هذه الأهمية العالمية عندما كان يحاول توسيعه لتوفير المياه الضرورية لعائلته ومواشيه. والهُمَّل في اللغة هي ضلال الإبل، ويبدو أن التسمية جاءت لاستخدام البئر من قبل البدو القاطنين في المنطقة لسقاية إبلهم.

وتقع بئر الهُمّل، أو جورة الهمل، وكانت تعرف سابقاً باسم بير عنوزي، ضمن تلة أشبه بالهضبة، على بعد 2 كم شمال شرقي قرية الكوم، وهي تتسع من الأعلى وتضيق باتجاه الأسفل، وتتراكم داخلها سلاسل حتاتية رملية تتوضع تضم أكثر من 23 طبقة أثرية تعود إلى العصور العصر الحجري القديم الأشولي، يليه الحجري الوسيط والحجري الحديث، ويشتهر الموقع لكونه المكان الذي اكتشفت به أحفورة عظام الجمل العملاق، والتي تعود إلى مليون أو مليون وخمس مائة ألف سنة قبل الميلاد.

 

الطبقات الأثرية

ويعُتبر هذا الموقع واحداً من أهم المواقع العالمية نظراً لما يقدمه من معطيات ومعلومات قيمة ومتتابعة توضّح تطور ثقافات عصور ما قبل التاريخ وبيئتها. وقد عثر في المستويات الأكثر عمقاً من البئر على أدوات مصنّعة من شظايا صوانية سميكة – أهمها المكشط اليبرودي (نسبة إلى منطقة يبرود بالقرب من دمشق) – تعود إلى 180 – 150 ألف عام؛ وفوق هذه الطبقات أمكن تمييز طبقات الثقافة الهُمّليّة التي تتميز بالنصال والحراب الطويلة المشذّبة والتي أُطلقَ عليها اسم الحراب الهُمّليّة، وهي أدوات صيد فعالة تؤكد على قِدم تقنيات صنع الحراب في المشرق، ثم تعلوها طبقات العصر الحجرى القديم الأوسط (110 – 95 ألف عام)، ثم تليها آثار العصر الحجري القديم الأعلى والعصر الحجري الحديث.

وإضافةً إلى المكتشفات الحجرية، أعطى الموقع مكتشفات عظمية ذات أهمية عالية لفهم المعطيات والدلالات الطبيعية والبيئية والمناخية القديمة في المنطقة، من أهمها اكتشاف قطعة من العظم لوحيد القرن، وكذلك فك سفلي لأسد وهو الكشف الأول من نوعه في المنطقة. وقد سمحت دراسة معطيات التنقيب في كل من موقعي الهُمّل والندوية “عين عسكر” بإعادة ترتيب مراحل التطور الإنساني والثقافي للعصر الحجري القديم في الصحراء السورية، وأطلق اكتشاف بقايا لمجموعة الإنسان المنتصب البدائي “هومو إريكتوس”، الجدل من جديد حول أصل الإنسان القديم، وسلط الضوء على مسارات هجرته إلى آسيا وأوروبا، وتصحيح قراءات كانت تعتقد بأن الجمل حيوان وافد على المنطقة.

 

الأدوات البدائية

ويجمع الخبراء على أن نوعية الأدوات البدائية التي تم العثور عليها في الموقع ليست فقط غزيرة وذات نوعية عالية، بل وصُنعت بشكل فريد، وفقط في منطقة الشرق الأوسط حتى أن الأوساط العلمية اعتمدت صفة “هملي” للإشارة إلى التكنولوجيا الجديدة التي استخدمها الإنسان البدائي بالمنطقة للحصول على أدوات ذات جودة وحدة أكثر للجانب المستخدم كسكين.

وكان الإنسان البدائي يستخدم حجر الصوان الذي كان متواجداً بكثرة على بعد حوالي عشر كيلومترات من بئر الهمل، ويجلبه للمنطقة لتصنيع الأدوات. والجديد في هذا التقدم التكنولوجي لصناعة الأدوات أن الإنسان في البداية كان يستخدم قطعة صوانية بوزن كليوغرام لصناعة قطعة واحدة أو قطعتي سكين او فأس بحافة قاطعة لا تتجاوز 10 او 20 سنتمراً. وفي الحقبة التالية، أي في العهد اليبرودي (حوالي 400 ألف سنة قبل الميلاد)، طور التقنية وأصبح يصنع من الكمية نفسها ما بين عشرة إلى عشرين أداة وبحافة قاطعة تتراوح ما بين 50 و60 سنتمتراً. وبالنسبة للتقنية الهملية تمكن الإنسان من تصنيع ما بين 20 و30 قطعة بنفس الكمية من الصوان وبحافة قاطعة تصل إلى 4 أمتار.

وهذه التقنية الهملية عثر على آثار لها في العديد من المواقع الآثرية في سورية والعراق وفلسطين والأردن، وتعود إلى حقبة تمتد من 150 الف إلى 250 ألف سنة قبل الميلاد، وهي المرة الأولى التي سجلت فيها الإنسانية تقدماً تكنولوجيا كبيراً في استخدام حجر الصوان لصناعة الأدوات.

وتشهد حصيلة اللقى والأدوات التي تم العثور عليها في بئر الهمل على بداية استخدام الإنسان الأول لتقنية التصنيع. ولكن على الرغم من انفراد موقع بئر الهمل بكونه من المواقع النادرة التي تحتوي على عدة حقب تاريخية في نفس الوقت، إلا أنه يفتقر للفترات الممتدة ما بين 220 ألف سنة و 900 ألف سنة قبل الميلاد. غير أن وجود بعض الأدوات المستخدمة للتقنية اليبرودية يقلص الفترة الناقصة إلى ما بين 400 و900 ألف سنة قبل الميلاد.

ويفسر البروفسور جون ماري لوتانسورر عدم وجود طبقات تمثل الفترة ما بين 400 و900 ألف سنة إما أن ترسبات هذه الفترة تمت بالفعل، ولكن تم تحطيمها، أو أن الترسبات لم تحدث بالمرة.