مجلة البعث الأسبوعية

ظواهر على هامش رئاسة بايدن.. قبل قيادة العالم على الرئيس الجديد قيادة واشنطن ذاتها!!

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد حسن

كما هو متوقع، لم يمر فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، بعد معركة داخلية مريرة اتسمت ببعد خارجي غير مسبوق في حدته ومستوى تطلعات أطرافه، دون أن ينتج عنه – أي الفوز – ويطوف على حوافه، وتتناثر بسببه، ظواهر سياسية غريبة قليلاً، لكنها معبّرة عن عالم اليوم المتخبط في حديث النهايات، وأوهام القوة والدور، و. . الرسالة الحضارية والأخلاقية المعتادة!! والملقاة على عاتق الأقوياء اتجاه الضعفاء والفقراء، على ما خلفته لنا سردية استعمار القرن التاسع عشر وما تلاها في القرن العشرين من أخلاقية “الانتداب” الضروري على الأمم “القاصرة”، والذي انتهى بدول مفخخة عن سابق عمد وإصرار بقنابل عنقودية، اجتماعية واقتصادية و”قبائلية” وسياسية وحدودية، جاهزة للانفجار، وبالتالي تسويغ عودة المستعمر بلبوس جديد.

وإذا كان أصحاب هذه الظواهر قد “أنجزوها” بجديّة مطلقة في سياق صراعهم السياسي الشرس مع الخصوم، إلا أن الفكاهة والعبثية كانا سمتها الفاضحة في الآن ذاته، وأبطال هذه الظواهر ثلاثة: بيل شاهين، المحامي اللبناني الأميركي والصديق الشخصي لبايدن، وتيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، وأخيراً وطبعاً. . جو بايدن ذاته!!

 

بايدن. . ماركس الثاني!!

بيل شاهين محام لبناني أمريكي وصديق شخصي لبايدن، ورداً على سؤال حول رؤية بايدن للبنان صرّح، ودون أن يرف له جفن، إنّ “بايدن يريد رؤية مسؤولين في لبنان من طينة الذين يريدهم في أميركا نفسها، أي الذين يهتمّون بالشعب الكادح وليس بطبقة الأغنياء”!! الشعب الكادح!!. . “طبقة” الأغنياء!!. . هذه اهتمامات جو بايدن في لبنان إذاً، وهي وإن كانت تدفعنا للعودة إلى كتاب “رأس المال”، و”البيان الشيوعي”، للتأكّد من اسم المؤلف، إلا أنها تزيل من “أوهامنا” ما هو مؤكد من تفضيل بايدن، وكل إدارة أمريكية قبله وبعده، للبنان التابع، ولبنان الإسرائيلي، على لبنان الكادح والثري في الآن ذاته؛ وبالطبع، لا نستبعد، في هذا السياق “الشاهيني”، أن يخرج علينا أحد المروجين الآخرين لثقافة الخضوع، متحدثاً عن ظهور “زعيم البروليتاريا الجديد”: “بايدن” ماركس الثاني. . !!

 

“ماي” والقيادة الأخلاقية العالمية لبريطانيا

تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، وعشيّة تنصيب بايدن، شنّت، في مقال صحفي، انتقادات حادّة ضد خليفتها رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، بسبب ما أسمته التخلّي عن “موقع بريطانيا من القيادة الأخلاقية العالمية”!!. . نعم، الجملة هي حرفياً: “موقع بريطانيا من القيادة الأخلاقية العالمية”، وهذا الموقع هو ما تخشى عليه ماي جرّاء قرار جونسون “التخلّي عن الالتزام بالحدّ السنوي الأدنى للمساعدات المخصّصة للدول الفقيرة والتنمية الدوليّة”، وتضيف رئيسة الوزراء السابقة إليه قلقها من تهديد جونسون المتكرّر سابقاً “بخرق القانون الدولي في المحادثات التجارية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”.

بالطبع، لا تحتاج ماي كي توضح لنا – أو لغيرنا – ما يغيب عنا من مفردات وماهية ومكونات هذه “القيادة الأخلاقية العالمية” لدولة تابعة بالمطلق لواشنطن – توني بلير رئيس وزرائها الأسبق كان يدعى كلب بوش – وتشارك بصورة آلية في كل حروبها العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية ضد “الدول الفقيرة” ذاتها التي تتباكى عليها ماي اليوم؛ وإذا كان البعض قد غاب عنه – بسبب مرور الزمن – دور لندن في تقسيم منطقتنا، كما فعلت في شبه القارة الهندية وأفريقيا وكل مكان طالته يد، وأطماع، صاحب أو صاحبة الجلالة؛ فالأغلبية لا تنسى دورها في تزوير أسباب غزو العراق والمشاركة المباشرة في العدوان عليه خارج الشرعة الدولية، ولا دورها الإجرامي المستمر حتى هذه اللحظة، تزويراً ومشاركة، في العدوان على سورية واليمن، والذي تقبض ثمنه رعاية سياسية من السيد الساكن في البيت الأبيض وأموالاً طائلة من نظم ملكية معروفة.

القصة في هجوم ماي، وببساطة شديدة، لا تتعلق بالدور الأخلاقي لبلادها، بل بالدور الشخصي لها في السياسة وطموحها، المشروع حتماً، للعودة إلى “تن داوننغ ستريت” محمولة على جناح التغيير الذي حدث في واشنطن، فإذا كان جونسون هو النسخة البريطانية لترامب، فإنها النسخة البايدينية، وهذا وقتها وأوان قطافها المنتظر.

لكن مأساة ماي تبدّت بقولها إنّ “عام 2021 يمكن أن يكون عاماً تتولّى فيه المملكة المتّحدة دوراً قياديّاً على الساحة الدوليّة، وتصبح بريطانيا العالمية حقّاً”!!. . . دون ذلك، سيدة ماي “خرق القتاد”، وهذا مثل عربي يجب أن يترجمه أحد لها، لأن أول من سيمانع “بريطانيا العالمية حقاً” هو بايدن “الرئيس المفعم باللياقة” كما وصفته ماي ذاتها، أما ثاني الموانع، وأهمها، فهو أن “بريطانيا العظمى” ستكون خلال هذا العام، وبعده، مشغولة بألاّ تتحول إلى “إنكلترا” فقط لا غير، وأول الغيث كان “خريطة الطريق” التي أطلقها “الحزب القومي الاسكتلندي” – صاحب الأغلبية في برلمان الإقليم الخاضع لحكم لندن منذ أكثر من ثلاثمئة عام – للوصول إلى إجراء استفتاء للاستقلال.

 

بين أندرو جاكسون وبنجامين فرانكلين

جو بايدن وبعد دخوله البيت الأبيض أزال، على ما قال كاتب عربي، صورة الرئيس الأمريكي الأسبق أندرو جاكسون، ووضع بدلاً منها صورة بنجامين فرانكلين. أكثر من ذلك، تريد “إدارته” تنفيذ أمر آخر معلّق من أيام أوباما: استبدال صورة جاكسون عن ورقة الـ 20 دولاراً بصورة الناشطة السوداء هارييت توبمان.

تكريم توبمان لا غبار عليه من الناحية الأخلاقية، فالسيدة التي وُلدت مُستعبدة في ولاية ماريلاند نجحت خلال نشاطها التحرري في 13 مهمة لإنقاذ ما يقارب من 70 مستعبداً. لكن وضع صورتها على “الدولار” – الذي يستعبد العالم كله اليوم – يتناقض جذرياً مع تاريخها النضالي والتحرري. استخدام الرأسمالية للرموز التحررية في سياق ابتذالها للاستفادة منها تجارياً، أو قيمياً، ليس جديداً. مثاله الأشهر تحويل واشنطن تشي غيفارا، بصورته الشهيرة وتاريخه المعروف، إلى سلعة رابحة. لكن استهداف جونسون، في الحالتين، هو ما يمنح هذه الظاهرة جدّتها وطرافتها في الآن ذاته.

جاكسون، الرئيس السابع للولايات المتحدة والمؤسس للحزب الديمقراطي، كان الخيار المفضّل لترامب الجمهوري!! فرانكلين – خيار بايدن – يشتهر بأشياء عدة، منها تعريفه الشهير للديمقراطية بأنّها “تعني وجود ذئبين وحمل يصوّتون ما الطبق الذي يشتهون تناوله على العشاء”!! هذا ليس تناقضاً على ما يبدو للوهلة الأولى، هذا انسجام تام. جاكسون الديمقراطي خيار ترامب لأنه، كما يقول الكاتب العربي ذاته، على صورته في الشعبوية واختراق المؤسسات الدستورية وتطويعها. فرانكلين، وهو واحد من أهم الآباء المؤسسين في أمريكا – صورته تزيّن المئة دولار – وإن كان حينها يصف حال بلاده داخلياً إلا أنه تمتّع ببصيرة مدهشة على ما يبدو، فالذئبان هما الحزبان الجمهوري والديمقراطي، والحمل هو بقية العالم، الحرّ والمستعبد على السواء.. تلك هي رسالة أمريكا الحقيقية كما يراها “بايدن”.

قصارى القول: الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة – أي بايدن – الآتي بهدف استعادة حلم العودة لقيادة العالم، وإن مع شركاء هذه المرة، هو، في الحقيقة، نتاج استعادة المؤسّسة السياسية للسلطة من يد رجل من خارجها، وخارج عليها في الآن ذاته. لكنه عالم يتغيّر في كل لحظة.. عالم لا يشبه ذلك الذي استلمه ترامب من أوباما، ولا ما استلمه أوباما ذاته من بوش الابن.. حتى واشنطن ذاتها تغيرت أيضاً، وترامب ليس شخصاً سيمضي من ذاكرتها بقدر ما هو ظاهرة سيكون لها ارتداداتها القادمة لأنها تمثّل أكثر من 75 مليون ناخب أميركي، بالتالي وقبل قيادة العالم على بايدن قيادة العاصمة واشنطن ذاتها؛ وهنا تحديداً تكمن مفارقات الامبراطوريات – وأخطارها في الآن ذاته – على الرعايا في كل مكان من هذا العالم الذي لا يزال يعيش في حقبة “العم سام”.