الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

“لا”.. صافعة!

حسن حميد 

أجل، ما زلت أقف متلبثاً عند قولة لينين (1870 – 1924) النافذة في حضورها ودلالة معناها: المثقفون يخونون أيضاً لأنهم الأكثر قدرة على التبرير! أقول هذا، وقد رأيت وعشت وعانيت أحوال أدباء عرب وأجانب مضوا إلى قبورهم وهم يبكون طالبين رضا الأعداء عليهم، لأنهم كما زعموا، لم يعرفوا رضا الأجداد والآباء، والأهل عنهم، مضوا وهم يدّعون بأنهم لم يعرفوا الحنان في بيوتهم، لهذا طلبوه في بيوت أخرى، حتى لو كانت بيوتاً للأعداء، والفرق كبير وحاسم ما بين الآخر والعدو.

هؤلاء أتذكرهم اليوم، وأنا أقرأ هذا الخبر الطّالع مع الصّباح أن الكاتبة الإيرلندية سالي روني وعمرها حوالي (30 سنة)، ولها ثلاث روايات فقط (حوارات مع الأصدقاء، وأشخاص عاديون، وعالم جميل! أين أنت)، ترفض دعوات دور النشر الإسرائيلية لترجمة رواياتها الثلاث إلى اللغة العبرية لأنها تناصر أهل فلسطين، وتطالب بالعدالة لهم. وقد تعلّمت أبعاد هذه المناصرة في بيت أهلها وليس في المدرسة أو في الكتب، قالت: لا، لدور النشر الإسرائيلية، لأنها لا تريد بيع وجدانها، كدت أقول لا تريد بيع ضميرها بالأموال التي سرقت ونهبت من الفلسطينيين؛ من أراضيهم، ومتاجرهم، وبيوتهم، وطرقهم، وموانئهم، وأنها لن تكون الكاتبة الإيرلندية التي تخرق الشرف الإيرلندي الذي تحلّى به الإيرلنديون طوال تواريخ حياتهم، من أنهم لم يفسدوا حياتهم ولا بلادهم حين رفضوا دخول أجداد هؤلاء الذين يحتلون الأرض الفلسطينية اليوم إلى الأراضي الإيرلندية والإقامة والاستثمار فيها كما حدث في معظم البلدان الأوروبية. وتقول سالي روني: الشرف ميثاق، وهو أغلى من عقود النشر، ومن الأموال التي سآخذها حقوقاً للترجمة، وإن  الدفاع عن القضايا الواضحة مثل الشمس لهو أهم وأكثر فخراً من حيازة المال والاستحواذ على بعض القراء الجدد.

هذه الـ “لا” للكاتبة الإيرلندية سالي روني هي “لا” كبيرة وذات معنى كبير، وهي “لا” حاسمة، وذات نظرة بعيدة في مراميها، لقد قالت: الخذلان سلسلة، مثلما هي الأخلاق سلسلة، فهم يريدون توقيع العقود اليوم لترجمة رواياتي، وغداً يريدون، حين تصدر طبعاتها باللغة العبرية، أن أذهب إليهم وأوقعها، وأن أذهب إلى شاشات تلفزتهم لأمتدحهم، وأبديهم في صورة حضارية لأن الشأن شأن له علاقة بالكتب والمثاقفة والإبداع.. وعندئذٍ، وأنا أطلّ من شاشاتهم سأكون عمياء تماماً لأنني لم أرَ، ولم أعِ ما فعلوه بالفلسطينيين طوال سبعين سنة وأكثر، وسأكون عمياء لا أعرف ثنائية القاتل والضحية.

أجل، إن “لا” الكاتبة الإيرلندية سالي روني مدوّية، وعلى كتّاب عرب (هم نكرات) فرحوا وابتهجوا بتوقيع عقود ترجمة رواياتهم وأشعارهم إلى اللغة العبرية، أن يعوا ما قالته سالي روني إن الخذلان سلسلة، وإن الأخلاق سلسلة أيضاً، ولكن الفرق بينهما شاسع، لأن من ولد ليزحف.. لن يطير!.

Hasanhamid55@yahoo.com