هل يفلح بايدن في تحييد موسكو حين النزاع العسكري مع الصين؟
البعث الأسبوعية- طلال ياسر الزعبي
تعيش الولايات المتحدة الأمريكية حالة هستيرية في التعاطي مع الصعود الروسي الصيني، حيث تعدّ هذا الصعود بمنزلة انهيار وشيك لإمبراطورية القوة التي تمثلها، وبالتالي فإن أيّ تفكير في إمكانية تشكّل عالم متعدّد الأقطاب تثير هذه الهستيريا، الأمر الذي يدفعها دائماً إلى محاربة هذا الصعود بشتى الوسائل.
اختيار طريقة التعامل
وبالنسبة إلى الإدارة الأمريكية بشكل عام، وبغض النظر عن مرجعية الرجل القابع في البيت الأبيض، لا تستطيع مطلقاً أن تتجاوز هذا الموضوع، حيث ترى بطبيعة الحال أن التعامل مع روسيا لا ينبغي أن يكون عسكرياً لما يمكن أن يحمله هذا الأمر من مخاطر نتيجة التطوّر الهائل في التكنولوجيا العسكرية الروسية التقليدية والنووية على حدّ سواء، ويجب أن يصبّ أيّ جهد في التعامل معها على تصعيد العقوبات الاقتصادية التي هي السبيل الوحيد لمجابهتها، بينما ينبغي التعامل مع الصعود الصيني على العكس من ذلك، حيث يمكن أن يتم التعامل معها في الوقت الراهن عسكرياً، حسب تصوّر القادة العسكريين الأمريكيين، ولكن لا يمكن أن تنجح مطلقاً العقوبات الاقتصادية في تحقيق الهدف نظراً لقدرة الاقتصاد الصيني الهائلة على الصمود أمام مثل هذه الضغوط، وبالتالي لا يمكن أن يكون للعقوبات أيّ دور في تدمير التنين الصيني.
من هنا فإن الملاحظ في علاقة واشنطن مع كل من موسكو وبكين، هو أن المبادر دائماً إلى استمزاج رأي الآخر هو الإدارة الأمريكية، وهذا لا يقتصر فقط على الإدارة الديمقراطية الحالية بقيادة جو بايدن، بل إن الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب رغم كل التصعيد الذي مارسه على العاصمتين إلا أنه هو الذي بادر إلى عقد القمم المتتالية معهما، وهذا ينمّ طبعاً عن أن هذه القمم هي حاجة أمريكية بالدرجة الأولى، أو تعبير عن قلق أمريكي من مفاجأة يمكن أن تكون موسكو وبكين قد حضّرتاها في هذا السياق.
قابلية “التنبّؤ” عبر اللقاء
فما الذي دعا الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى طلب عقد القمة الأخيرة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما الذي كان يعوّل عليه من ورائها؟.
في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية، وفي إطار استحواذها على حصة الأسد في حلف شمال الأطلسي “ناتو” باتت هي الطرف الوحيد المتحدّث باسم هذا الحلف الذي يقع على عاتقه اتخاذ قراراته المصيرية، فضلاً عن أنها وضعت الدول الأوروبية جانباً وصارت تفاوض عنها، فرغم أن ساحة الصراع الروسي الأوروبي هي ساحة أوروبية بالمحصلة، بمعنى أنه ينبغي أن يكون الصراع محصوراً بين موسكو وبروكسل إن صح التعبير، فإن واشنطن ومن وراء المحيط تتولّى بذاتها التحدث باسم أوروبا كاملة، وهذا ما أشارت إليه روسيا مراراً على لسان عدد من مسؤوليها الذين أكدوا أنها تحوّلت إلى ناطق رسمي باسم أوروبا.
وفي الوقت الذي تعلن فيه واشنطن أنها تبحث عن علاقات “قابلة للتنبّؤ” مع موسكو، فإن سياساتها المعلنة تجاهها لا تنمّ عن البحث عن مثل هذه العلاقات، فقد صعّدت الإدارة الأمريكية مؤخراً من حملتها الإعلامية ضدّ روسيا زاعمة أن هناك غزواً روسياً وشيكاً للأراضي الأوكرانية، وأن روسيا تحشد نحو مئة ألف مقاتل على حدود أوكرانيا، وبالتالي نصّبت نفسها مدافعاً رسمياً عن هذا البلد في وجه غزو روسي له ليس موجوداً إلا في ذهن صانع هذه الرواية، ويتعيّن طبعاً على الجانب الأوكراني أن يأخذ الرواية الأمريكية على محمل الجدّ وأن يتخذ جميع الإجراءات التي تتناسب مع حتمية صحة هذه الرواية، أي لا بدّ من رفع مستوى المخاطر في هذه المنطقة إلى أبعد الحدود، وبناء على ذلك نشرت أوكرانيا 120 ألف جندي حول دونباس الإقليم الذي يقطن فيه نحو 500 ألف مواطن روسي، وبالتالي فإن موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي أمام سيناريو إبادة جماعية لهؤلاء.
ولو أضفنا إلى القضية الأوكرانية، قضية اللاجئين التي تم افتعالها على الحدود البيلاروسية البولندية، فإننا نلاحظ أن التصعيد في هذه القضية أنيط بكل من بولندا وبريطانيا حتى لا يظهر الأمر كأنه سيناريو أمريكي معدّ سلفاً لاستفزاز موسكو، ولكن الأطراف على الضفة الأخرى وخاصة بريطانيا البعيدة نسبياً وجّهت أصابع الاتهام إلى روسيا في هذه القضية، الأمر الذي يتيح لنا الحديث عن توزيع أدوار في استفزاز موسكو، واشنطن عبر أوكرانيا، ولندن ووارسو عبر بيلاروس الحليف الأوحد لروسيا في أوروبا.
وبمبادرة من الجانب الأمريكي أرسلت واشنطن إلى موسكو كلاً من نائبة وزير الخارجية الأمريكي، فيكتوريا نولاند، ومدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، وجرت محادثة عبر تقنية الفيديو بين الرئيسين بوتين وبايدن، كما أن مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أوروبا وأوراسيا، كارين دونفريد، ستزور كييف وموسكو في الفترة من 13 إلى 15 كانون الأول الحالي وسط تصاعد التوتر الروسي الأوكراني.
القلق الوجودي يقف خلف الابتزاز
أسلوب الابتزاز الذي تمارسه واشنطن إزاء موسكو، لا ينمّ فقط عن صراع أجنحة في الإدارة الأمريكية، بل يعبّر تعبيراً واضحاً عن قلق وجودي تعيشه الإمبراطورية الأمريكية على جميع المستويات، فالوضع في الولايات المتحدة الأمريكية ليس مثالياً للمغامرة بخوض حرب مباشرة مع روسيا يمكن أن تتطوّر إلى حرب نووية ستكون هي الخاسر الأول فيها باعتراف أغلب المحللين السياسيين والعسكريين، كما أن الداخل الأمريكي يعيش حالياً أسوأ الظروف في ظل انتشار واسع للسلاح بين أيدي الناس وارتفاع معدلات الجريمة المنظمة، كما أن بوادر حرب أهلية شديدة لا تزال ماثلة للعيان في ظل تمييز عنصري مقيت يهز المجتمع الأمريكي، وكل ذلك إلى جانب حرب جديدة تخوضها الولايات المتحدة يمكن أن يكون القشة التي تقصم ظهر البعير وتؤدّي إلى انهيار اقتصادي للإمبراطورية تحاول جاهدة الهروب منه، وخاصة أن انتخابات الكونغرس باتت على الأبواب 2022 والانتخابات الرئاسية في عام 2024، ولن يكون بوسع المجتمع الأمريكي تحمّل الاستقطاب الحاد الذي يمكن أن تجلبه كل هذه الأمور.
التخبط مقابل اتزان
الوقت بالنسبة إلى الدولة العميقة في واشنطن يضيق كثيراً لتحقيق هزيمة مفترضة لكل من روسيا والصين تزعم الإدارة الأمريكية أنها يمكن أن تحقق لها بقاء أطول كقطب أوحد في هذا العالم، وبالتالي فإن وضع الإمبراطورية على المحك، وهذا بالضبط ما يدفع حكام واشنطن إلى التخبّط في سياساتهم، وفي المقابل لا نرى هذا الأداء على صعيد الحكومتين في كل من روسيا والصين، رغم كل التصعيد الذي تحاوله واشنطن ضدّهما في هذا الإطار، فإصرار واشنطن على توسيع حلف “ناتو” باتجاه روسيا ونشر الأسلحة الإستراتيجية الأمريكية بالقرب من حدودها، أعلنت روسيا مؤخراً أنه ربما يعيد إلى الذاكرة حالة الكاريبي في عام 1962، الأمر الذي يمكن أن يسرّع أكثر من أي وقت مضى في انهيار الإمبراطورية الأمريكية، كما أن التصعيد على حدود الصين محفوف بالمخاطر لأن واشنطن تجهل إلى الآن حالة التحالف التي تربط كلاً من موسكو وبكين.
لذلك فإن واشنطن كانت مضطرة أكثر من أيّ وقت مضى لاستمزاج رأي موسكو فيما يحدث من تصعيد على حدودها، ومن هنا كانت تحاول في القمة الأخيرة الوصول إلى ردّ فعل روسي “قابل للتنبّؤ” حول جميع الاستفزازات التي مورست ضدّ موسكو في الآونة الأخيرة، ومن هنا جاء رد الفعل الروسي قاسياً على مستويين، أولهما على لسان رئيس هيئة الأركان الروسية فاليري غيراسيموف الذي أعلن أن 95% من قدرات روسيا الصاروخية النووية جاهزة للقتال، وثانيهما ما صرّح به نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف من إمكانية تكرار أزمة الكاريبي عام 1962، واصفاً ذلك بأنه سيكون فشلاً كبيراً للدبلوماسية.
إذن، فشلت المحاولة الأمريكية الأخيرة في الوصول عبر قمة بايدن بوتين إلى انتزاع موافقة روسية ضمنية على انتزاع الصمت الروسي إزاء ما يمكن أن يحدث من تصعيد ضدّ الحليف الصيني، لذلك لابدّ من تصعيد الضغط على روسيا في مختلف الجبهات، أوكرانيا وبيلاروس وأرمينيا، ولكن روسيا لن تقبل بالمحصلة أن تنحصر أي حرب تُفرض عليها في إطارها الضيّق لأنها هدّدت واشنطن غير مرة بأن أيّ حربٍ تتسبّب بها عبر وكلائها ضدّ روسيا لن تكون هي في منأى عن تبعاتها، وبالتالي فإن بايدن ربما يكون قد سمع مباشرة من نظيره الروسي تهديداً فحواه أن أيّ حرب ستندلع هنا لن تكون ضمن حدود أوروبا، بل ستصل النار إلى “مواقع اتخاذ القرار” خلف المحيط وهذا ما يتعيّن على واشنطن قراءته جيداً، وهو بالضبط السبب الذي دفع واشنطن إلى التهديد فقط بالعقوبات والنزول عن شجرة استخدام النووي ضدّ روسيا.