حلب تحتفل بقدودها
حلب- غالية خوجة
اللحظات، هنا، ترفع رؤوسها حتى السماء، توشوش الغيوم والفصول وتضحك لأنها رأت التأريخ يسجّل جولته المنتصرة وهو يعبر مع الناس من مختلف الأعمار إلى كل شبر من حلب المتباهية بإرادتها على الاستمرار في الحياة وإعادة الحياة إلى الازدهار، حالها حال المدن السورية، ومنها دمشق التي تحتفل مع حلب في الوقت ذاته بتسجيل القدود الحلبية على لائحة اليونسكو تراثاً معنوياً فلكلورياً عالمياً، لتكون عاصمة القدود والموشحات بعدما كانت عاصمة الثقافة الإسلامية وعاصمة الثقافة السورية.
اشتهرت حلب بالقدود كفن شعبي موسيقي أصيل عمره أكثر من حوالي ألفي سنة، ويجيده الحلبية من صغيرهم لكبيرهم، ويحضر معهم أينما حلوا وفي كافة مناسباتهم الدينية والدنيوية، وها هم يجتمعون أمام قلعة حلب محتشدين محتفلين مع أصوات غنّت الموشحات، منها صبري مدلل، وقدري دلال، وصباح فخري، ويردّدون معهم تلك القدود الدينية والدنيوية وهم يرقصون رقصتهم العربية، هذه القدود التي توارثها الحلبية عن أجدادهم، ومنهم الجيل الأقدم أمثال الشيخ أبو بكر الهلالي، ومحمد أبو الوفا الرفاعي، ومحمد الوراق، وعبد الهادي الوفائي، والشيخ أمين الجندي، مروراً بمحمد خيري، ومصطفى ماهر، ومها الجابري، وسيد درويش، وبكل يقين صباح فخري المطرب العربي الوحيد الذي دخل موسوعة غينيس.
وتستمر الشاشة الإلكترونية بعرضها للقدود الطربية، وهي تقف مقابل خان الشونة العريق المحدق بها أيضاً، وهو يحتفل بمهرجان المنتجين الأبطال، ليكتشف كيف أصبح هذا الفن تراثاً مضافاً إليه ولأخوته الخانات الأخرى ومعالم مدينة حلب القديمة، وأولها القلعة المحتفية معنا بالعلم السوري وصورة قائد الوطن السيد الرئيس د. بشار الأسد القائل: “حلب في عيوني”، كما تحتفل بالألعاب النارية الملفتة وهي تنشد قدودها الحلبية بموسيقا ضوئية، ضمن احتفالية باهرة نظمتها الأمانة السورية للتنمية التي نقلت مع الراحل صباح فخري وزارة الثقافة والجهات الأخرى الحكاية السورية المتناغمة للمجتمعات العالمية.
عرضت الشاشة فيلماً توثيقياً عن القدود الحلبية، والفيلم الذي نشرته اليونسكو عن هذه القدود أيضاً، كما عرضت القرار الذي اتخذته اليونسكو من أجل تسجيل هذه القدود في لائحة التراث العالمي اللامادي، وذلك خلال اجتماع الدورة السادسة عشرة للجنة الحكومية الدولية لحماية التراث الثقافي اللامادي في فرنسا، موضحة: إن جزءاً من ثقافة وتراث المجتمع السوري العريق أضيف إلى التراث الإنساني العالمي.
وتناغمت احتفالية هذا الانتصار للفن والحضارة والموروث الحلبي الإنساني مع إضاءة المكان بألوان مبهرة، كما تزينت الأشجار بإضاءات متكاملة مع الخلفية الموسيقية الصادحة بين أرجاء القلعة والمعالم الأثرية التي تجعل ذاكرة المحتفل معنا تتسلسل بقدود كثيرة غناها مطربون محليون وعرب وأجانب، أبرزهم صباح فخري الذي مرت روحه، ربما، بيننا لتحضر بين القمر وهو يغمز القلعة بين الغيم والرذاذ والسعادة.
حضرت الاحتفال شخصيات رسمية وثقافية وفنية وإعلامية وجموع شعبية، وكانت الملامح، رغم البرد والمطر، سعيدة بهذا الإنجاز، وبهذه الاحتفالية التي وقفت لحظة صمت في البداية، تلاها النشيد الوطني، بحضور أحمد منصور أمين فرع حلب لحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي قال لـ”البعث”: انتصرت حلب وها نحن نحتفل بذكرى انتصارها للسنة الخامسة، وبانتصارها بقدودها الحلبية على الحرب الإرهابية، لأن القدود ثروة شعبية معنوية ورثناها عن أجدادنا وحضارتنا.
كان كل ما في هذا المكان الأثري العريق مبتهجاً بانتصار القدود الحلبية والهوية الوطنية والثقافية والفنية لسوريتنا الحبيبة، وبينما الشاشة تعرض المزيد من الذاكرة الفنية الإنسانية، بلوحة خطية تشكيلية عربية ملونة كتبت “القدود الحلبية”، كانت فرقة المولوية تختتم الاحتفالية التي امتدت حوالي 3 ساعات، لتؤكد أن الحياة تستمر بحبها ومحبتها وبموسيقاها التي تردّدها قلعة حلب ويردّدها العالم على هذه الأرض، كأن المطر سمع الصوت “اسقِ العطاش”، فعاد إلى إيقاعه الشفيف ببطء ليتركنا نحتفل إلى ما لا نهاية، وكأنه يغني قداً من تلك القدود.