لعنة الأساطير..!
حسـن حميد
بلى، الأساطير حافلة بالثنائيات التي تحيط بالحياة لتبدي مراياها، أي حافلة بالصراع كي تتمايز المحبة من الكراهية، والقوة من الضعف، والجمال من القبح، فالأساطير كلّها، ومدونات الميثولوجيا هي كتاب الإنسان الذي رأى فيه صورته، وأفعاله، وهمومه، وسعادته، وما صادفته من عقبات ومحجوبات حالت بينه وبين رغائبه وأحلامه، وهذا الكتاب ثقيل في معانيه، خالد في بقائه، نافذ إلى النفوس والقلوب والأرواح دائماً، فهو المرجعية الأوفى والأهم التي تحدّثُ الإنسانَ عن الأكوان الثلاثة: الكون العلوي السماء، وما فيه من غيبيّات وأسرار وقوّة لا تُعرف مكامنها، والكون الأرضي، وما فيه من صراع جمّ ينوس ما بين الشقاء والسعادة، والصحة والمرض، والحياة والموت، والسخط والرضا، والكون السفلي هو كون الأموات الذين لا يعودون أيّاً كانت رُتبهم ومكاناتهم، وأيّاً كانت أنماط حياتهم وصور موتهم، وما في هذا العالم من أسئلة لم تُعرف لها أجوبة ضافية وافية حتى يومنا الراهن!
الأساطير جميعها، وحكايات الميثولوجيا جميعها أيضاً، ترصد تعالق هذه الأكوان فيما بينها، فلا شيء يحدث في أحدها إلا ويرى صورته أو صداه في الكونين الآخرين، مثلما ترصد تعالق حياة الإنسان بالآلهة، وتأثير القوي في الضعيف، وحاجة الضعيف للقوي، وحدوث الأفعال من دون مسوّغات بسبب عدم قدرة الإنسان على فهم رغائب الآلهة وأحلامها، وتقلبات أمزجتها، وعدم قدرته على توقّع ردود أفعال الآلهة تجاه سلوكه، ولاسيما في لحظات غضبها التي تحملها الظلمات، والغابات، والرياح، والأمطار، والبروق، والرعود، والغيوم السود، وأسيجة العليق والشوك رسائل تلجم بها سلوكيات الإنسان التي لا تحبذها.
ولأنّ الأساطير، والحكايات الميثولوجية، هي كتابة مزيج من الواقع والمجاز، فإنّ الانقطاعات والنهايات والخواتيم تلفّ أحداثها من المبتدأ إلى الخاتمة، مما يشوّش صورة الحكاية، ويوقف اندفاع السرد، وهنا ترتبك النهايات والخواتيم فتصير غير منطقية، أو غير متوقّعة لأنّ أمزجة الآلهة تلعب بها مثلما تلعب الرياح الهوج بأوراق الخريف، وبذلك تتبدّى صور الظلم، وتتعالى أصوات الاستغاثة، وتجهر النفوس بالألم، لأنّ لكل حادثة ضفّتين، واحدة تحتضن الضحيّة وما ولّدته من قهر وصبر ومواجع وصيحات ألم، وما آلت إليه من هزيمة وموت، وثانية هي الضفّة التي تحتضن الجلّاد وما ولّدته أفعاله من أذيّات وظلم ودماء وبشاعة وموت أيضاً. أقول هذا، وأستذكره، لأنني أرى صورة العالم الراهنة، هي صورة من صور الأساطير، وحكايات الميثولوجيا البشعة، لأنّها تُبرز ثنائية القوّة والضعف، والظلم والمظلومية في آن؛ فها هي الدول القويّة بالمدافع والطائرات والصواريخ والنفوذ والتكنولوجيا تشبه قوّة الأساطير التي تحلّت بها الآلهة، والتي كانت بادية على شكل رياح عاتية، وأمطار شدود، وبروق صاعقة، ورعود راعبة، وأنهار لا تواجه، وبحار لجوج، ونبوءات نافذة.. ها هي القوّة الظالمة في عالمنا الراهن، تهدّد، وتحتل، وتفرض إرادتها عبر أوامر سمّتها بالقوانين، على بلدان وشعوب وأمم، فتظلم وتقهر، وتسجن، وتقتل، وتنهب طوال الوقت الذي تشاءه، ثم تخرج، وكأنّ لا شيء يعنيها، لا أرقام القتلى الرهيبة، ولا الخراب العميم الذي شمل حتى الهواء، ولا وقفها للنمو والزمن ووأدها للأحلام الصغيرة والكبيرة معاً.
ساكي، الفتاة البهّارة بجمالها والمنادد لجمال أفروديت في الأسطورة، تُقتَل من إيروس زوجها لأنّها طالبت برؤيته لتعرف من هو زوجها! فيقتلها، ثم تحوّلها أمّه (أفروديت) المغتاظة منها أيضاً (لأنها صرحت بأن جمالها يضاهي جمال أفروديت) تحولها إلى بومة تظهر في الليل تنادي (آه، آه)، أو تظهر كخفّاش أسود يطوف الخرائب وهو يقهقه بكاءً.. بعد أن كانت تسكن القصور حين كان الإله (إيروس) راضياً عنها!. ترى، ألا نرى في عصرنا الراهن، أنّ أهل القوّة ما زالوا يعيدون إنتاج ثقافة الأساطير والميثولوجيا ومن دون أن يرفّ لهم جفن، ويريدون لنا أن نقبلها ونتبناها من دون أسئلة أو نظرات عاتبة أو تلويح بمنظومة القيم السّامية! ترى أهذه هي لعنة الأساطير، وقولة أهل النبوءات إنها مستمرة ونافذة! أم أن لإرادات الشعوب قولاً آخر.. وفعلاً آخر أيضاً للافتكاك من هذه اللعنة؟!