الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مسْمار

عبد الكريم النّاعم

*داهمني هذا العنوان وأنا أُعدّ نفسي للنّوم، وكثيراً ما يحدث هذا حتى لكأنّ تلك الأفكار لا تعجبها المُداهمة إلاّ في هذا الوقت، وما باليد حيلة، فمن يستطيع أن يوقف دماغه ساعة ما يريد إلاّ ما سمعناه، وقرأناه، ولم نره، عن بعض “اليوغيّين”، القادرين على إيقاف الدماغ عن التفكير، وبعضهم يوقف الأجهزة اللاإرادية عن العمل لمدة كالقلب، والرئتين.

*الكثيرون يلفظون هذه اللفظة “بسمار”، ربّما لأنّ مخرج الحرفين واحد، يقول “المنجد” بأنّ المسمار “وتد من حديد”.

*داهمتْني الفكرة وبدأت أقلّبها، وأتقصّى بعض معانيها، فكيف لمن يكون هذا حاله أن ينام؟!!

وإليك عزيزي القارئ بعض الوجوه المُستعرَضة..

لا شكّ أنّ نفوذ المسمار في الخشب، أو في الجدران، نتيجة الضرب عليه هو الذي جعل العامّة يقولون في مجال التعريض، أو الغمز: “ضربو بسمار”، فاستعاروا نفوذ الحديد في الأشياء للإشارة إلى نفوذ الكلام في النفس، وهو يماثل في لغة أهل هذا العصر قولهم “طّق براغي”، فإذا نجح أحدهم في أن ينفّذ خطّته أو حقده ضد آخر، لدى رؤسائه يقولون “طّقّلّوا برغي”.

*هذا المسمار لا شكّ أنّه كان حاضراً في سفينة نوح ذات الألواح والدّسر.

في بلاد الشام ثمّة مثَل يقول عن “البرغل” إنّه “بسامير الرّكب”، بمعنى أنّه يشدّ الرُّكَب كما تشدّ المسامير الألواح إلى بعضها، وصاحبنا البرغل هذا الذي كان مؤونة الفقراء أمثالنا وفي متناول يد الجميع، وكانت سيدة البيت حين يعييها طبخ شيء تعتمد على البرغل، هذا الذي ما كان يعجبنا قديماً صار سعر الكيلو الواحد منه أكثر من ألفي ليرة سوريّة، فهل لهذا علاقة بالتّسمير، أو بـ “التّثمير”؟!

*بالمناسبة نقول إنّ أهلنا في المغرب العربي (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب)، لا يعرفون ما هو البرغل الذي نأكله، ولكنّهم يستخرجون من القمح مادة تُشبه البرغل، تُطهى بطريقة خاصّة مع قِطَع الجزر، واللحمة، ويسمونها “الكُسْكُسي”، وتقوم مقام البرغل في بلاد الشام.

ثمّة مدينة واحدة في الجزائر، اسمها “الْمْديَّه”، وتقع جنوب العاصمة الجزائر، أهلها يعرفون البرغل، وحين تقصّيت الأمر لماذا تنفرد هذه المدينة عن بقيّة مُدن المغرب، قيل لي إنّ أجداد هؤلاء أتراك، جاؤوا ومعهم البرغل.

لدى البدو قديماً، ولا أعرف ما إذا كان ذلك مستمرّاً حتى الآن، كان للقبيلة أو العشيرة “شيخها”، وهو لا ينفرد بقراراته، بل ثمّة مجلس يختاره من عقلاء القبيلة، ومن المعروفين بالحنكة، والعادات والتقاليد، ويسمّونهم “المسامير”، بمعنى الرسوخ، والفطنة، والارتكاز، ولا يُشترط أن يكونوا من الأغنياء، بل ممّن يتمتّعون بعقل راجح.

هذا المسمار يبدو أنّه كان حاضراً بخفاء في نفسي، وأنا أتذكّر الآن بأنني كتبتُ ومضة شعريّة ذات يوم، لا يحضرني عنوانها، وعلى الرغم من ضعف ذاكرتي في الحفظ، علقت في ذهني ربّما لأنّ شاعراً آخر قد استحسنها، وقد جاء فيها

يا أجملَ مَن في الدارْ

يَدُكَ الحلْوةُ دَقَّتْ في البيتِ المسمارْ

وسأمضي قبْلكَ، أو تمضي قبْلي، ويظلُّ المسمارْ  

ولاشكّ أنني كنتُ أعبّر عن أنّ ديمومة الأشياء أكثر من ديمومة الإنسان، في ظاهر الأمر.

*يحتاج النجّار أثناء عمله لاقتلاع بعض المسامير، ويلجأ في ذلك إلى الكمّاشة، وبعضها يبدو مستعصياً فلا ييأس، ويتابع عمله حتى يقتلعه، ويتابع شغله، وأنا أتساءل، قياساً إلى ذلك: تُرى كم سنحتاج من الكمّاشات لاقتلاع مسامير الفساد والإفساد، والذي لم يعد مرتكبوه يخجلون منه، فقد جعلوا منه عنواناً لأعمالهم، متباهين غير آبهين إلاّ بما يدخل جيوبهم، وبما يُقبلون عليه من مُتع الحياة.

لا تنسوا مسمار جحا..

aaalnaem@gmail.com