تصعيد عسكري لغايات اقتصادية
طلال ياسر الزعبي
في وقت تؤكد موسكو، على لسان جميع مسؤوليها، أنها لا تنوي مطلقاً غزو أوكرانيا، وأن هذا الأمر ليس موجوداً إلا في مخيّلة المسؤولين الغربيين الذين ينفخون في نار هذه الحرب، تصرّ الإدارة الأمريكية على رفع مستوى المخاطر من هذا السيناريو لدى الجانب الأوكراني خاصة، ولدى الاتحاد الأوروبي عموماً، حيث لا تنفك إدارة الرئيس جو بايدن عن إطلاق التحذيرات من “الغزو الروسي الوشيك” لأوكرانيا، حسبما ذكرت قناة CNN الأمريكية التي نقلت عن مسؤول رفيع في الإدارة الأمريكية قوله: “ما نفعله محسوب بدقة.. لكن لدينا نافذة إمكانيات لا تزيد مدّتها على أربعة أسابيع من الآن” لمنع حدوث ذلك.
وبغض النظر عن القدرة الخارقة التي تمتلكها واشنطن لتحديد مستوى المخاطر حتى تسنّى لها أن تطلق مثل هذه التحذيرات، فإن الأمر يبدو كأنه يحمل في طيّاته استغباء للحليف الأوروبي الذي عليه أن يتخذ سلسلة قرارات اقتصادية خلال هذه المهلة لإلزام روسيا عبر العقوبات بالامتناع عن هذا الغزو، حيث لا بدّ له من أخذ هذه المهلة التي تم طرحها بعين الاهتمام، الأمر الذي يؤكد أن واشنطن تقود أوروبا على طريقة القطيع لإصدار عقوبات اقتصادية ضدّ روسيا تكون مقدّمة لوضع أوروبا نهائياً تحت الوصاية الأمريكية.
وإذا ما علمنا أن كبار المسؤولين المقرّبين من بايدن قد أشاروا إلى أن العقوبات التي فرضت على موسكو عام 2014 كانت تهدف إلى كبح تطوّر بعض الشركات الروسية المملوكة للدولة على المدى المتوسط والطويل، من خلال تقييد وصولها إلى أسواق رأس المال والتكنولوجيا الأمريكية، فإن هذا بحدّ ذاته يؤكد أن واشنطن ترفع مستوى المخاطر في أوروبا لإجبارها على اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة إزاء موسكو وتصعيد العقوبات ضدّها، الأمر الذي سيدفع الأخيرة تلقائياً إلى الردّ بالمثل، في وقت أكدت واشنطن في أكثر من مناسبة أنها ليست في وارد الاصطدام عسكرياً مع موسكو، وهذا يعني أنه حتى لو اشتعلت أوروبا كلها في حرب مباشرة مع روسيا لن تتدخّل لإنقاذها، وذلك لأن الغاية من هذه الحملة الإعلامية التي تشنّها وسائل الإعلام الأمريكية ليس توعية أوروبا إلى “غزو روسي وشيك” لأوكرانيا كما تدّعي، بل وضع حاجز كبير من الخوف أمام أي محاولة أوروبية للتكامل الاقتصادي مع روسيا التي هي الأقرب جغرافياً إلى أوروبا.
ورغم كل الآراء التي تقول بأن ضمّ الدول السابقة في الاتحاد السوفييتي، ومن ضمنها أوكرانيا وجورجيا طبعاً، إلى الحلف، سيزيد من أعبائه ويؤدّي إلى ضعف في بنيته التحتية، إلا أن واشنطن تدفع بهذا الاتجاه، ولا تريد الدول الأوروبية التي اعتادت أن تمثل دور التابع للمايسترو الأمريكي أن تقتنع حتى بأن الحلف ذاته لن يكون بمقدوره الدفاع عنها فيما إذا اشتبكت عسكرياً مع روسيا.
ولكن الإدارة الأمريكية تخشى في الوقت ذاته أن تندلع حرب في أوروبا عبر تسويقها المستمر لظاهرة “الرهاب الروسي”، في وقت تدرك أن الجانب الروسي هدّد غير مرة بأن أيّ حرب ستندلع في المنطقة لن تنحصر ضمن هذا الإطار الجغرافي، بل ستتعدّاه لتشمل المحرّض الفعليّ عليها، وهذا ما دفعها إلى النزول عن شجرة تهديداتها بحرب نووية ضدّ روسيا، والاكتفاء بالقول: إنها ستفرض عقوبات اقتصادية شديدة على موسكو، وبالتالي إشراك أوروبا في هذه العقوبات عبر إلغاء اتفاقياتها الاقتصادية مع روسيا ومنها السيل الشمالي، وهذا بالفعل الهدف الذي تسعى إليه من وراء رفع مستوى التوتر بين أوروبا وروسيا.