أخبارصحيفة البعث

الإدارات الأمريكية تفتقد للمصداقية.. تتراجع عن الاتفاقات الموقعة وتفضل اللجوء إلى العقوبات

تقرير إخباري

باتت الولايات المتحدة تميل في الآونة الأخيرة إلى الرجوع في كلمتها أو التخلي عن الاتفاقيات. وحتى حين تبرم بعض الحكومات الأخرى اتفاقاً مع الولايات المتحدة وتلتزم بشروطه، فهذا لا يضمن لها ألا تغير الولايات المتحدة موقفها في ظرف سنوات قليلة وتسعى لمهاجمتها أو عزلها.

ويقدم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، نموذجاً واضحاً لكيفية تراجع أمريكا عن تعهداتها واتفاقاتها. فقد أنهت الحكومة الليبية العقوبات الغربية التي خضعت لها مقابل إنهاء برامج الأسلحة غير التقليدية ووقف دعمها للمجموعات اليسارية عام 2003؛ لكن الولايات المتحدة تدخلت لدعم تغيير النظام في ليبيا عام 2011 وعملت على تدمير الدولة الليبية.

كما كانت إيران ملتزمة التزاماً كاملاً بالاتفاق النووي لتكافأ في النهاية بحرب اقتصادية شعواء شنتها الولايات المتحدة عليها بعد انسحاب الرئيس الأمركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق.

ولم تستمتع إيران بتخفيف العقوبات بعد إبرامها الاتفاق بقدر معاناتها من العقوبات. والجمهوريون المتشددون يتوعدون بالفعل بأن أي اتفاق تبرمه إيران مع إدارة بايدن والقوى الكبرى الأخرى ستنهيه الإدارة القادمة.

وحتى لو كانت هذه التصريحات من قبيل المبالغة ومحاولة استثارة العواطف، فعلى الحكومة الإيرانية أن تفترض أن هذا سيحدث وتستعد له.

والدبلوماسية الأمريكية مبتلاة أيضاً بالاعتماد المفرط على التهديد بالعمل العسكري. فقد ظهرت سلسلة من المقالات والرسائل في الأشهر القليلة الماضية التي تحث إدارة بايدن على إضفاء المزيد من “المصداقية” على التهديدات بعمل عسكري بحق إيران، كما لو أن استعداد الحكومة الأمريكية للجوء إلى القوة موضع شك مريب.

والحكومة الإيرانية لا تحتاج إلى إقناع بأن الولايات المتحدة قد تهاجم بلادها. بل ما تحتاجه القيادة الإيرانية هو تأكيدات صادقة بأن الولايات المتحدة ستخفِّف العقوبات بشكل دائم، لأنه بدون هذه التأكيدات سيغيب عنها الحافز للتخلي عن الميزات التي اكتسبتها على مدى السنوات القليلة الماضية.

وإفراط الولايات المتحدة في استخدام العقوبات يقيد الدبلوماسية ويجعل من الصعب جداً اللجوء إلى عرض تخفيف العقوبات للحصول على تنازلات في المقابل. وحين تُعاقب دولة في مجموعة واسعة من المجالات، لن يكون لديها حافز قوي لتقديم تنازلات في أي مجال من هذه المجالات لأن الفائدة العملية من الاكتفاء برفع بعض العقوبات محدودة.

وأصبح من النادر أن تشارك الولايات المتحدة في مفاوضات على إبرام معاهدات، لكنها قد تتجاهل المعاهدات الناجحة للحد من الأسلحة لأتفه الانتهاكات أو حتى مجرد الاشتباه في وقوع انتهاكات.

وقد سحب ترامب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى (INF) والسماوات المفتوحة، ظاهرياً بسبب الانتهاكات الروسية، لكن إلغاء معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى أطلق يديّ روسيا في نشر المزيد من الصواريخ التي كانت تحظرها هذه المعاهدة.

والامتثال الكامل من الحكومات الأخرى لا يضمن عدم انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة ما. فقد انسحبت واشنطن من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية قبل عشرين عاماً بحجة توسيع الدفاعات الصاروخية. وهذا القرار أدى إلى تسريع تدهور العلاقات الأمريكية الروسية في بداية القرن وأدى في النهاية إلى سباق التسلح المزعزع للاستقرار الذي نشهده الآن.

وسبق أن قدمت وعداً للسوفييت بعد توسع الناتو شرقاً. ووفقاً لما كشفته وثائق أمريكية وسوفييتية وأوروبية رُفعت عنها السرية مؤخراً، فإن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جيمس بيكر، أكَّد للرئيس السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في عام 1990، أن الناتو لن يتوسع “بوصة واحدة” شرق ألمانيا، وذلك عقب سماح موسكو بإعادة توحيد ألمانيا الشرقية مع الشطر الغربي، وآنذاك كان هذا هو الخط الأحمر لروسيا.

ولم تلتزم الولايات المتحدة الأمريكية بوعودها، وانزاح الخط الأحمر شرقاً لمسافة 965 كيلومتراً، ففي “مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية”، في عام 2007، سأل بوتين في خطاب موجه إلى العالم: “ماذا حدث للتعهدات التي قدمها شركاؤنا الغربيون بعد حلِّ حلف وارسو؟ أين تلك التصريحات اليوم؟ لا أحد يتذكرها حتى!! لكن اسمحوا لي بأن أذكِّر الجمهور بما قيل آنذاك”.

ومن الأسباب الأخرى التي حالت دون تحقيق واشنطن المزيد من النجاح في جهودها الدبلوماسية أن الثقافة الأمريكية السياسية لا تعطي قيمة كبيرة للدبلوماسية أو الأشخاص المكلفين بتنفيذها.

فغالباً ما يُنظر للتسوية الدبلوماسية على أنها مرادف للضعف، وفعلياً تتعرض كل المبادرات الدبلوماسية المهمة مع الدول المنافسة أو المنبوذة للهجوم وتُعامل على أنها نوع  من الخضوع قبل حتى أن تبدأ.

يعتبر المتشددون حتى أصغر التنازلات الضرورية خيانة للأمن القومي. فانتقال سلطة الحكم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن يعني أن الاتفاقات التي يتفاوض عليها رئيس من أحد الحزبين نادراً ما تستمر حين يأتي رئيس من الحزب الآخر إلى السلطة، وعجز مجلس الشيوخ الأمريكي عن التصديق على المعاهدات الجديدة يفرض على الرؤساء القبول بأي اتفاقيات قصيرة الأجل يمكنهم إبرامها.

ولا يزال في الولايات المتحدة إجماع خانق من الحزبين على اللجوء إلى التهديد بالتدخل العسكري والعقوبات في تعاملهم مع السياسة الخارجية، ولكن حين يصل الأمر إلى التفاوض على حل وسط يعود بالفائدة على جميع الأطراف، فإنه عادة ما يواجه بانقسام حزبي مرير واختلافات أيديولوجية. وهذا ينطبق على الاتفاقات والمعاهدات السياسية على حد سواء. وليس هناك اتفاق تفاوضي بمأمن من الفشل في ظل تعامل صناع القرار والقادة السياسيين مع الدبلوماسية بهذا الامتهان.

وغالباً ما ينشغل صناع السياسة في واشنطن بطريقة تتأكد بها الولايات المتحدة من امتثال الحكومات الأخرى، ولكن المشكلة الأكبر في الوقت الحالي أنه لا يمكن الوثوق بالتزام الحكومة الأمريكية بما تقول إنها ستفعله لأكثر من بضع سنوات في كل مرة.

فظاهرة تراجع أمريكا عن تعهداتها واتفاقاتها أمر يجرى تكراره بشكل دوري، ويتم التعامل معه باعتباره حقاً طبيعياً للأمريكيين.

فلماذا قد تضطر أي حكومة إلى المخاطرة سياسياً وتقديم تنازلات كبرى في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة حين يكون من المؤكد عملياً أن موقفها سيتغير بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ إن لم تستطع الولايات المتحدة تعلم كيف تحافظ على التزاماتها الدبلوماسية، فسوف سيستمر تدهور الدبلوماسية الأمريكية على حساب المصالح الوطنية والسلام والأمن الدوليين.